كل يوم في الأوقات ذاتها وبدقة أثارت فضول الفضوليين ، يأتي رجل إلى المقبرة أسمه مبروك ، وكانت الحقيبة الجلدية السوداء التي يعلقها على كتفيه ، تلازمه منذ سنين عديدة ، كان يضع فيها ما يحتاجه من طعام وشراب ، وقد يضع بداخلها أشياء آخري ، كان يدخل المقبرة ويمشي بين القبور الظاهرة ، ويبدأ في الجلوس في المكان ذاته لا يغيره ، وقيل أنه يجلس أمام قبر بعينه يتأمل القبور .
عندما يقترب المساء يتحرك من مكانه ذاك ، ويعود من حيث أتى وقد صنف مبروك منذ سنين عديدة بالأشخاص التي تحب الخلوة ، بل ودعاه الكثير بكونه من المجانين لميله الدائم إلى العزلة ، خاصة لأنه يصدر بعد الهمهمات بفمه بينما يسير في طريقه .
مسكن العم مبروك : يسكن مبروك والذي يبلغ من العمر خمسين عاماً ، باصطبل مهجور في أطراف المدينة ، وقد حيكت قصص كثيرة حول ذلك الاصطبل ، والأسباب التي جعلت أصحابه يهجرونه ، وقيل أن الاصطبل كان يعود فيما مضى ، إلى أحد كبار المزارعين في المنطقة .
وأنه وجد ذات مرة فرس أبيض تائه فضمها إلى خيوله ، وظل يحتفظ بها حتى يأتي من يطلبها ، وفى يوم من الأيام عندما وضع أمام الفرس تبناً ، وبعض الشعير وإناء ماء وقد ربط قدم الفرس بوتد في الاصطبل .
وبعدما غادر المزارع إلى منزله ، وفى منتصف الليل سمع صهيل الخيل من الاصطبل ، فظن أن لصوص قد أتوا لسرقة الخيول ، فنهض من فراشه وأسرع إلى الاصطبل ، ولما وصل لم يجد أثر لأي شخص حول الاصطبل .
ولكن صوت ظل صوت الخيول يعلو اكثر وباب الاصطبل مغلقاً ، كما كان في تقدم المزارع وفتح الاصطبل فوجد الفرس الأبيض قد أختفي ، وهناك رجلاً بلباس أبيض مربوطاً ، مكانه فلم يصدق عينيه وارتجف جسمه ، وسقط على الأرض فاقداً الوعي ، وتقول الحكاية من بعدها قرر الرجل أن يهجر الاصطبل ، ومنذ ذلك الحين لم يدخله سوى مبروك .
لم يكن مبروك متسولاً بل كان يقبل بالصدقات ، أن أعطاه أحد الطعام أو الشراب ولا ينطق كلمة ، إنما يمسك بما اعطي ويمضي إلى حال سبيله ، وما كان يثير الفضول والاستغراب هو أن مبروك ، كان لا يخلف مواعيده مع المقبرة ، حتى وأن كان الطقس بارداً أو ممطراً .
وكان كل يوم يمضي بجوار المقبرة الوقت نفسه ، وحاول البعض جعل مبروك يتكلم معهم لكن دون جدوى ، وكان أهل البلدة يريدون معرفة من هو العم مبروك ومن أين أتى وما اسمه حيث أن ذلك الاسم ، كان من تسمية أهل القرية له .
جولة حول الاصطبل المهجور : ذات صباح أتى ثلاثة رجال إلى الاصطبل المهجور ، اثنان منهم غريبان عن البلدة والثالث معروف من سكان البلدة ، ومن سمساري العقارات وبعد أن طاف الثلاثة حول الاصطبل المهجور ، وقد هم أحد الغريبين بفتح الباب ولكن نبهه الرجل السمسار ، بأن يسكن الاصطبل رجل مجنون ، فخاف الرجل وتراجع بعد أن سمع ذلك الكلام .
تراجع الرجال وكان الغرض من زيارة الاصطبل ، هو شراء تلك الأرض وعند الشروع في الذهاب رأوا باب الاصطبل يفتح ، ثم ظهر مبروك بشعره الأبيض ولحيته الطويلة البيضاء ، حاول الغريبان التحدث معه ، لكن اخبرهما السمسار ، بأن العم مبروك لا يكلم أحداً ، وأنه يقبل الصدقات في صمت .
العم مبروك ينطق أخيراً : كان ما قد جذب انتباه الرجلين الغريبين ، أن العم مرزوق يشبه والدهما ، فاقتربوا منه ووجهوا له سؤالا : أليس أنت عبد الغفور ؟، رفع العم مبروك رأسه ، وكان نادراً ما يفعل ذلك ولم يجب ، فكرر الرجل سؤاله مرة آخري وفجأة رد العم مبروك ، وقال : من أنتما ؟
فرد أحدهما : أنا عبد اللطيف وهذا أخي عبد الجليل ، وما جذب انتباهنا أنك تشبه والدنا كثيرًا مما نعتقد أنك تشبه أخانا الأكبر عبد الغفور ، فقد قال لنا والدنا يوماً أنك اختفيت ، فجأة من بلدتنا ولم نعثر عليك رغم كل محاولتنا للبحث عنك .
حقيقة العم مبروك : تراجع مبروك إلى داخل الاصطبل ، وأغلق الباب وظل الرجلان ينظر أحدهما للآخر ، بينما كان السمسار الذي يرافقهما يتابع ما يجري في دهشة كبيرة ، وسمع الرجال صوت العم مبروك يبكي بحرقة ، فاقتربوا نحو باب الاصطبل ودفعوه حتى فتح لهم .
وجلسوا بجوار العم مبروك ، وانتظروا حتى هدأ تماماً ، وكانت كلمات العم مبروك لهم : نعم أنا عبد الغفور ولقد غادرت البلدة ، منذ أن رفض والدي أن أتزوج من تلك التي أحببتها ، ولم أستطع أن أعيش في نفس البلدة ، التي تعيش فيها محبوبتي وفضلت الفرار وعلمت أنها ماتت ، وتتبعت أخبارها حتى عرفت مكان دفنها ، وصرت أرافق قبرها كل يوم .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.