قصة يوم مزيكا

الكاتب: رامي -
قصة يوم مزيكا
ونادى المنادي : عنباااار .. كله يسمع .. المزيكا وصلت ! وكان المنادي المسجون مبسوطًا على غير العادة ، وكان المسجونون الخمسمائة على أهبة الاستعداد للانبساط بهذا النداء ، ودوى العنبر بهدير صيحة طفلية : هاااه ، كلهم كانوا يصيحون كالأطفال : القتلة وقاطعوا الطريق ، وتجار المخدرات ، والقوادون ، والسارقون ، والمتهمون بالتسول ، ولصوص الدواجن ، كلهم صاحوا : هاااه ، وكانت ملامحهم تشكل صورًا لأطفال كبار بوجوه غريبة تحمل آثار الجروح ، الغائرة القديمة وظل الشحوب في الرطوبة والعتمة .

فرحة مثل الأطفال في العيد :
كانوا في أبهى حللهم وقد زال عنهم ليوم واحد هذا الزي الأزرق الكالح للمحبوسين ، حيث بدوا كأطفال ذاهبين إلى سوق العيد : هذا يتباهى بقميصه ذي الجيوب على الصدر ، وهذا بحذائه اللماع ، وذلك بلاسته الحريرية ، وكانوا يتقافزون بتصايح ، ويجرون وراء بعضهم البعض في ضحك ويتخطفون الطعام .

الأيتام والمساجين :
عندما قابلتهم فرقة السجانة تأمرهم بالعصي أن ينتظموا طابوري قرفصاء في الحوش ويصمتوا ، أطاعوا بطيبة بدت غريبة عنهم ، وقرفصوا في طابورين يواجهوا طابوران من أطفال الملجأ الأيتام ، الممسكين بآلات موسيقية نحاسية ، وصنع العساكر كردونًا يحيط بالطوابير الثلاثة ، ووقف المأمور في الصدر يخطب : هنأ بالعيد ، وأعطى تعليمات بالهدوء وحفظ النظام ، ولم يكن أحد يسمعه إذ تعلقت عيون المساجين بوجوه الأيتام .

عيون متعلقة وتشبيهات :
وكانت تسمع الهمسات في طابوري القرفصاء : لي طفل مثل هذا الذي في الطرف تمامًا ، وأحدهم يهمس : وأنا ابني لا يفرق في شيء عن هذا الولد السخيف إلا في لونه ، ثم يقول آخر : هذا الولد الذي هناك يشبه أخي بلال ، والآخر يهمس : يا أخي هذا الولد الذي يحمل الطبلة هناك ، نسخة طبق الأصل من ابني الكبير أحمد .. وكان أن انتهى المأمور من خطبته وابتدآ العزف .

العزف الهادي وارتفاعه :
كان الصمت يعم المكان والعيون مشدودة حين تم عزف السلام الجمهوري ، ثم لحن الله أكبر ومازالت العيون مشدودة للعيون ، ثم دق جرس الهاتف في مكتب المأمور ، مما اضطره للانصراف وترك الطابور ، وحالما غاب المأمور جرى اتفاق سريع بين المسجونين والسجانة ، على عزف لحن حديث ذو ايقاع سريع فهلل المسجونين ، ونهضوا هاجمين على فرقة الأيتام ، يحملونهم بآلاتهم فوق أكتافهم ، ولم يرتبك اللحن بل تناسق وظل يعلو في حمية ، وكان العساكر يضربون بضحك ضربًا خفيفًا ، للحفاظ على النظام والهدوء .

ضجيج وفرحة وصخب :
وبدأ حوش السجن يتحول إلي مرقص صاخب ، والمسجونون الراقصون يحملون الأيتام الذين راحوا يخلصون في العزف بغبطة ، على حين تدس في جيوبهم عطايا المسجونين من علب السلامون ، وقروش قديمة التواريخ ، وأمشاط ولعب مصنوعة من الخشب ، والورق الملون ، وكان يعلو اللحن الحزين الذي ابتهج ، وكان يعلو صياح المساجين السعداء بفرحة الرقص .

دموع على ألحان المزيكا :
وكان العساكر يتنقلون من الغضب إلى الضرب بشدة حتى لا يسمع المأمور ، ومع ذلك كان يبدو ألا سبيل لتوقيف اللحن أو الصيحات أو الرقص ، أو حتى بعض الدموع التي راحت تذرف خلسة ، وسط صخب المزيكا .

شارك المقالة:
50 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook