قلب على قارعة الطريق

الكاتب: المدير -
قلب على قارعة الطريق
"قلب على قارعة الطريق




ظلَّتْ هذه المرأة العاقر سنوات عِدّة ترقب أملًا يراه الجميع ضربًا من المُحال، وتراه هي قريبَ المنال؛ قُرب الماء البارد في كوبٍ ترفعه كل يوم لتبل منه صداها، وتروي ظمأها، فما تنكَّر لها ذلك الكوب يومًا، وما خذلتها برودته ساعة، فما عند الله قريب ما دام الدعاء سلاحها، والرجاء في الله سبيلها.. أرأيت مبلغ فرحة تلك المرأة اللهفى بعد أن رزقها الله بما ترجو بعد سنوات عجاف؟! وبعد أن بل صداها، وأجاب دعاها؟! كيف يا تُرى تكون عنايتها بهذا الزائر الذي حلَّ بعد طول انتظار، وهلَّ بعد أن مرَّتْ قَبلَه آلافُ الأهِلَّة؟!!

 

إنك لتراها تتعهده ليلها ونهارها، تسهر على راحته لينام ملء جفونه، وتسعى في خدمته؛ كي لا تُفجع بآلامه وشجونه، إن أشار لبَّتْ، وإن نادى أجابت، وإن استدعى هرولت، وهي بكل ذلك كَلِفَةٌ سعيدة، تتفقده في جميع أحواله، وتتبعه في حِلِّه وترحاله، فهو حُلمها الذي تحقق، وأملها الذي يكبر أمام عينيها كل يوم، فكيف بها إن أصابه مكروه؟! هل يمكنها العيش بدونه وقد أصبح حياتَها بعد حياةٍ أشبه بالموات؟!

 

أرأيت حال تلك الأم مع وحيدها؟ كيف تتعهده لأن حياتها بدونه عدم! وكيف ترعاه لأن في رعايته حيوات تضاف لحياتها! إنَّ قلوبنا كذلك الطفل، فهي بحاجة إلى رعاية تفوق رعاية تلك الأم لفلذة كبدها، فحياتنا بحياته، وموتنا جزء من موته، به سعادتنا أو شقاؤنا، يجعل صاحبه سعيدًا مُهنًّى في نعيم الجنة، أو شقيًّا مُعنًّى في لهيب جهنم، هو إذًا جنتنا أو نارُنا، نعيمنا أو جحيمنا، فهل ترانا بعد ما عرفنا قيمته ودوره نهمله وننساه؟! أليس حقيقًا به أن نرعاه بماء عيوننا؟! فماذا بالله عليك لدينا أفضل منه؟! وماذا بربك عندنا آثَرَ وأحسن منه؟! أيليق بنا أن ندفع به رخيصًا عند كل مُلِمَّة؟! ألا يستحق أن نربأ به عما يكدر صفوه؟ وأن نبعد به عن كل ما يورثه همًّا أو غَمًّا من أجل دنيا وصفها رسولُنا الكريمُ صلى الله عليه وسلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ فعن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعديِّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ))؛ رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.




إن هذا القلبَ عزيزٌ، لا ينبغي لصاحبه أن يذلَّه، كريمٌ لا يليق بحامله أن يهينه، وما إذلاله - رحمني الله وإياك - إلا بتعريضه لما ينبغي أن ينأى عنه، ولا إهانته - وقانا الله وإياك المهانة - إلا بتحميله ما لا يطيق. إنه مفتيك عند الحاجة، وقائدك عند المسألة، ومقياس الخير والشر من نفسك، فهو أشبه بجهاز قياس الحرارة، ينبض نبضًا أو يضيء ويُصدر صوتًا محذِّرًا من داء قد أصاب الجسد، أو عَطب ألمَّ بأحد أعضائه، ويزف إليك الفرح والبشرى من قبل أن تهلَّ تباشيره، ولكنَّ هذا كله لا يكون إلا بتعهُّد هذا القلب تَعهُّدَ الأم التي حدَّثتُك عنها آنفًا، وفي الحديث الشريف عن وابصةَ بن معبد - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البِرِّ والإثم إلا سألتُ عنه، فقال لي: ((ادنُ يا وابصةُ))، فدنوتُ منه؛ حتى مسَّتْ ركبتي ركبتَه، فقال لي: ((يا وابصةُ، أُخبرك عما جئتَ تسألُ عنه؟))، قلتُ: يا رسول الله، أَخْبِرْنِي، قال: ((جئتَ تسألُ عن البِرِّ والإثم))، قلتُ: نعم، فجمعَ أصابعَه الثلاثَ، فجعل ينكتُ بها في صدري، ويقول: ((يا وابصةُ، استفتِ قلبَك، والبِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفْسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في القلب، وتردد في الصَّدر، وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوك)). قال الألباني: حسن لغيره.




إنَّ صلاح العمل مرتبط بصلاح هذه المضغة الصغيرة، وفساده متعلق بفسادها؛ تلك المضغة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))؛ متفق عليه. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: القوم إذا صلحت قلوبهم فلم يبقَ فيها إرادةٌ لغير الله عزَّ وجلَّ، صلحتْ جوارحُهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه.

 

إن هذا القلب رائد الجوارح، والرائد مُؤتَمَنٌ، فاستحق الإمامةَ عليها، ومن ثم وجب أن ينال من العناية والاهتمام ما يفوقها؛ فإذا كانت عنايتك بجسمك واجبةً، فإنَّ عنايتك بالقلب أوجب، وإذا كنت تختار لجسمك من الطعام أحسنه وأهنأه، ومن الشراب أنقاه وأَمْرَأَه، وتمارس الرياضة من أجل سلامته من الأدواء والعلل - وقانا الله وإياك شرَّها - فإنه من الألزم والأوجب أن تختار لقلبك ما يسعده، وتبعد به عن كل ما يؤذيه أو يزعجه، فهو مرآتك في حياتك، وعملُه ملازمٌ لك بعد مماتك، أثرُه واضحٌ بيِّن، ودوره أخطر وأظهر، وإذا كانت أدواء الجسد قد تؤذي دهرًا، فإنَّ أدواء القلب تؤذي دهورًا، وإذا كانت أدواء الجسد ظاهرةً، سهلة التشخيص، فإنَّ أدواء القلب خافية متوارية، ليس لها أجهزة للتشخيص، ولا أدوات طبية تدلُّ عليها، ولا مقياس يقيس زيادتها أو نقصانها، وإنما المَرَدُّ فيها لصاحب القلب نفسه، فهو أدرى بِعلله وأدوائه، ومن ثم فهو أقدر على أن يصف لكل علة منه علاجًا، ولكل داء فيه دواءً، وما ذلك إلا بدوام تفقده، واستمرار تَتَبُّعِه، دونما غفلة أو إهمال، ولا تراخٍ أو تسويف؛ لأن أدواءه إذا استحكمت صعُب على صاحب القلب تداركه؛ لأن المرض يكون قد تمكَّن، والداء فيه يكون قد استحكم واستعظم، فيحتاج كثيرًا من الجهد ليجلو صداه، ووقتًا أطول لتفادي آثاره وما ينجم عنه.

 

فبالله قل لي: ألا تحتاج جارحة بهذه الدِّقة، وعضوٌ بهذه الحساسية، ودورٌ بهذه الخطورة التي يؤديها القلب إلى كبير عناية، وعظيم اهتمام؟! أيعقل أن تلقي بقلبك على قارعة الطريق، فتُسلمه لمن يستفزك فيغضب، أو يسبك فيثور، أو يظلمك فيحاول الانتقام لك، أو يعتدي عليك فيودُّ الردَّ عنك، أو يغتابك فيدفعك إلى رد الغيبة غيبتين، والصفعة صفعتين؟ فإلى أي الأودية إذًا تودُّ أن تسلك به، وأنت مُسلِمُه بذلك لا محالة إلى المهالك؛ لأنك تود أن تجمع فيه ما تفرَّق من العيوب في غيره، وتشغله بغيره عن الانشغال معك بنفسك!

 

إنَّ سلامة القلب، وهدوءه، واستقامته عند حدود الله، ليس بالشيء الهيِّن، بل إن ذلك بحاجة إلى كثير من التمرين والدربة، وتفقُّد مجالس الصالحين، وصحبة الأخيار، واختيار من الكتب أصلحها - بعد كتاب الله وسنة نبيه- ومن سير المتقين أقربها إليك، وأيسرها عليك، فلكل سيرة طريق سهَّلها الله لصاحبها، فاختر من بينها ما يتوافق وحالك، ولا تغفل عن تعهد قلبك ساعة؛ فقد تُضيعُ غفلةُ ساعة تعب سنة؛ واعلم أن قلوب الصالحين ونياتهم لم تُسلِم لهم قيادها دونما معالجة ومجاهدة، بل إن ذلك كان من الشدة عليهم بمكان إلى حدِّ قول سفيان بن عيينة رحمه الله: ما عالجت شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي أنها تتقلب عليَّ؛ ومن ثم فإن الصلاح يحتاج لإصلاح، فمن أين يأتي تغيير الحال إن لم يتغير ما بالقلوب والنفوس؟ وتأمَّل قوله تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ? [الرعد: 11]، يقول السعدي: ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ? من النعمة والإحسان ورغد العيش، ? حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ? بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها، فيسلبهم الله عند ذلك إياها.. وكذلك إذا غيَّر العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة.

 

إنَّ تعهد القلب - والنية في سويدائه - وتفقُّده، واللجوء إلى الله بالدعاء، وسؤاله التثبيت من وسائل النجاة لمن كتب الله لهم النجاة، وقد كان النبي الكريم كثيرًا ما يدعو بثبات القلب على دين الله عز وجل، فعن أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ))، وفي حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: يا رسول اللَّه، إنك تُكثر أن تدعو بهذا الدعاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عز وجل، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ))، أرأيت فائدة التعهد والمداومة والاستمرار ما دام في القلب رمق، وما دام في الجسم عِرق ينبض، فالمسلم يعبد الله وهو على وَجَل، يحكمه بُعدان: خوفٌ من عقاب ربِّه، ورجاء في عفوه، ويظل بين هذين الحالين إلى أن يمنَّ الله عليه بالراحة من كلِّ هذا؛ في جنة يرتاح فيها المؤمن من متاعب الدنيا ولأوائها، ويسلمه الله فيها بعفوٍ منه سبحانه، ثم بعمله مع سلام قلبه.

 

ونية المرء دائمًا خيرٌ من عمله، فقد ورد عن رسول صلى الله عليه وسلم قوله لأصحابه في غزوة تبوك: ((إن بالمدينة رجالًا ما سِرتُم سيرًا، ولا قطعتم واديًا إلَّا كانوا معكم؛ حَبَسَهم المرضُ))، وفي رواية: ((إلَّا شاركوكم في الأجر))؛ متفق عليه، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم))؛ رواه مسلم.




إن الذين يودُّون لو رَدُّوا الإساءة لمن أساؤوا إليهم إساءتين، ويتمنَّون لو كالوا لمن ظلموهم الصاع صاعين، أو المعاملة بالمثل على أقل تقدير، فلا يتركون مظلمة إلا ظلَموا مثلها، ولا يغادرون إساءة إلا بإساءة تضاهيها، ماذا تركوا لأنفسهم على غيرهم من الفضل؟! وماذا ادَّخروا لأنفسهم عند ربهم من مزية ترفع درجاتهم، فيرتقوا على غيرهم؟!

 

إن قلوبنا ليست رخيصة لنجعلها سلعة هينة نلقي بها على قارعة الطريق، بل هي أثمن ما نملك فلنجعلها مِنا حيث تستحق، ولننزلها من أنفسنا أعَّز منزل؛ فإن في إكرامها إكرامًا لأصحابها، وإن في تعهدها صلاحَ أمر حامليها، فإذا سَلِمَ القلب لم يسكن فيه إلا الربُّ، وجاء في الأثر: يقول الله: وما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.

 

ويقول زهير بن أبي سلمى:

لسانُ الفتى نصفٌ ونصف فؤادُه *** فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ

 

اللهم إنا نسألك أن نلقاك سليمي القلوب، ? يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? [الشعراء: 88، 89].

 

ونسألك لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook