قناة الترجمة وحوار الأديان

الكاتب: المدير -
قناة الترجمة وحوار الأديان
"قناة الترجمة وحوار الأديان

 

إنه لا يَخفى على ذي العقل الرصينِ أن الترجمةَ عملٌ من الأعمال الثقافيَّةِ الأساسيَّة في تبادُل الفكر، وتفاعلِ الثقافة، ونموِّ العلم؛ فهي الجسر الواصل بين الثقافات، ومن شأنها أن تمدَّ ثقافتَنا بأفضل الإنتاج العلميِّ والفكريِّ والثقافيِّ والفنيِّ في اللغات الأجنبيَّة، بما ييسِّر لقراء العربيَّة التعرفَ على حركة العالم[1] في شتَّى الميادين، ويشكِّل الدينُ أهمَّ هذه المعارف.




ومن جهتنا، يمكننا أن نقول في المقابل: إن الترجمة هي الوسيلة التي تمكِّنُنا من نقل روائع الفكر العربيِّ، قديمه وحديثه، إلى اللغات الأجنبيَّة؛ تعريفًا للقراء بتلك اللغات بثمرات الفكر العربيِّ، وتصحيحًا لصورة الحضارة العربيَّة التي يتولَّى تشويهَها أعداؤُنا الطامعون، ودعمًا لقضايانا، وفي مقدمتها قضيَّةُ العرب الكبرى؛ فلسطين، فهذه القضيَّة من مضامين أدبنا العربيِّ المعاصر[2].




زِدْ على هذا، فالترجمة لا تقف عند التعريف بالثقافة الأدبيَّة فحسب، بل بِجُلِّ الجوانب؛ لتصحيح الصورة النمطيَّة عند الغرب، التي تتداخل في تكوينها عدةُ عوامل من مقارباتٍ مختلفة؛ ولهذا فجسرُ الترجمة يجعل للغرب نافذةً من خلالها تمكنهم الإطلالة على موروثنا الثقافي، وخصوصًا الديني، ولا سيما بعدما ظهر ما يُسمى الإسلاموفوبيا؛ أي: إنهم قد وقعوا في شَرَكِ تكوين خوفٍ باطنيٍّ من الدين الإسلاميِّ بسبب تصوراتهم الخاطئة تمامًا عن الدين المحمديِّ الحقيقيِّ، وقد كان هذا نتاجًا لربط أعمال العنف والإرهاب - خاصة في عصرنا الحالي - بما هو ديني، وهذا يعد إجحافًا في حق الإسلام والمسلمين، لكنَّ المطَّلِعَ على الإسلام من خلال قناة الترجمة يعلم تمامَ المعرفة أن ما يروَّج له هو خطأ تمامًا جملةً وتفصيلًا.




ولهذا؛ فإن المؤسساتِ التي تهتمُّ بمجال الترجمة، يجب عليها الاهتمام أكثر بالمجال الديني، لا من ناحية ترجمة تاريخنا الإسلاميِّ والقرآن خصوصًا، بل بترجمة الأديان الأخرى وما أنتجتها بواكر فكرهم، سواء للأديان السماويَّة، أو للعقائد الموضوعة من طرف الإنسان من بوذيَّة وزرادشتيَّة وغيرها؛ ليتمكن الإنسان ذو العقل النبيهِ من التمييز والمقارنة، وليتمكن كلٌّ من الأنا والآخر من الوصول للحق، وبناء نقاش ثقافيٍّ على المستوى الدينيِّ بشكل فعالٍ وبنَّاءٍ، ولتجنب كلِّ الصراعات الطائفيَّة التي تُنتج في الغالب ذاك التطرفَ القاتل بين جُلِّ الأديان، فالكلُّ يعدُّ نفسَه على موقعٍ من الصواب في إطار انعزاله، أما حاليًّا في حالة وجود هذه القناة أصبح النقاشُ أكثرَ تطورًا، ولم يعد ذاك التعسر في معرفة الديانات الأخرى؛ مما ينتج لنا طاولة رحبة للنقاش بين الأديان السماويَّة، وطرح الكل لمنطق واحد، ألا وهو النقاش البنَّاء.




وعليه؛ فقد شكَّلَ بيتُ الحكمة أهمَّ تلك المؤسسات قديمًا، فقد أسس لنا أرضيَّة مميزة، وكوَّنَ بين جدرانها طائفةً من رواد الفكر والمعرفة، المؤسسة التي نقلت المعارف والعلوم إلى العرب في مطلع نهضتهم العلميَّة، فأخذوا حصيلة ما أدرك السابقون، ثم انطلَقوا في دروب الكشف والإبداع، فأغنوا الثقافة الإنسانيَّة بفيض عبقريتهم.

والآن، إذ نتطلع إلى المشاركة في الجهد البشري الفكري والعلمي، فإننا نتطلع إلى استعادة تلك التجربة العربيَّة الفريدة، والتي كانت إبداعًا عربيًّا[3] لا مثيلَ له.




ومن أهم الكتب التي تُرجمت آنذاك، الجامعة بين الدين والفلسفة والأدب، نجد:

? الكلم الروحاني من الحكم اليوناني؛ لابن هندو (المتوفى عام 1019 أو 1029)، ترجمة لأمثال وشعر يونانيين.

? صيوان الحكمة؛ لأبي سليمان السجستاني (المتوفى بعد عام 987).

? الحكم الخالدة؛ لابن مسكويه (المتوفى عام 1030).

? الملل والنِّحل؛ للشهرستاني (1076 - 1153)، الذي يستوحي الكتاب السابق ويقدم الفلاسفة ونظرياتهم.

? البرهنة: الترجمة السريانيَّة الجزئيَّة لحنين، والترجمة العربيَّة الجزئيَّة لإسحاق وعيسى.

? كيف يعرف المرء عيوبه الخاصة: الترجمة السريانيَّة لحنين وتوما.

? الأخلاق: الترجمة العربيَّة لحنين، والسريانيَّة لحبيش.

? علاقة قوة الأخلاق بالمزاج: الترجمة السريانيَّة لحنين، والعربيَّة لحبيش، ثم مراجعة لاسطفان بالعودة إلى النص اليوناني الأصلي[4].




لكن الترجمة في ذلك العصر رغم أنها كانت مهتمة بالجوانب الثقافيَّة الأخرى، فإنها كانت في نهاية الأمر نتاجَ السلطة والنظام السياسي الحاكم؛ إذ كانت الترجمة كفعل راجع إلى طلب الخلفاء وحاشيتهم من العلماء والموسوعيين، ولأسباب متباينة أحيانًا[5]، على أن هذه الأسباب أصبحت في عصرنا الحالي تتخذ أشكالًا أخرى.




إن حوار الأديان ينبني بالأساس على معرفة دين الآخر؛ لفهم عقلياتهم، وللتمكُّن من تجاوز ذاك الصدام بين الثقافات، وخاصة ما ينتج عن الجهل بالأديان الأخرى، ومن هذا المنطلق تعمل جمعيات مختلفة على خلق هذا الجسرِ للتواصل وبناء الحوار عن طريق قنطرة الترجمة.




ولهذا؛ تعدُّ في عصرنا الحالي المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم، هي الإدارة القوميَّة للعمل التربويِّ والثقافي والعلمي، وقد أَوْلَت الترجمة منذ نشأتها العنايةَ المستحَقة، وكان من ثمرات الجهد الذي بذلته في هذا المضمار وضعُها (الخطة القوميَّة للترجمة)، التي أقرَّها مجلسها التنفيذيُّ في دورته الثلاثين عام 1982م، واستهدف رسم الخطط الرئيسة للنهوض بالترجمة العلميَّة والأدبيَّة في الوطن العربي، على أساس التعاون الوثيق بين الأقطار العربيَّة والمنظميَّة[6].




وعليه؛ فقد تمكَّنت منذ أن بدأت حركة الترجمة في الوطن العربي منذ قرن ونصف القرن، وقطعت في طريقها أشواطًا بعيدة، وقدَّمت للقارئ العربي الكثيرَ في كل ميدان من ميادين المعرفة[7].

وقد أسهمَ العربُ كثيرًا في الترجمة على المستوى الديني، وخاصة فيما يتعلق بالدين المحمديِّ، وهنا نقصد القرآن الكريم، فمثلًا كانت هناك حاجة شديدة لترجمة معتبرة وسهلة بالأرديَّة، وبناءً على ذلك، ترجم الشيخُ فتح محمد خان الجالندهري معانيَ القرآن موافقًا لتراكيب اللغة الأرديَّة، بالمفردات السهلة، وبأسلوب رائع.




كان الشيخ الجالندهري عالمًا فاضلًا وماهرًا في العلوم الإسلاميَّة والعصريَّة، وله كعبٌ عالٍ في اللغتين: الأرديَّة والعربيَّة، ومهاراتٌ تامة في أصول الترجمة وقواعدها، فصارت ترجمة معاني القرآن الكريم للشيخ فتح محمد خان الجالندهري شهيرة إلى حدٍّ كبير في مشارق الهند ومغاربها، وأثنى العلماء الكبار عليها ثناءً جميلًا[8]؛ مما يؤكِّد أن الثقافة الآسيويَّة - وخاصة الهنديَّة - قد عرَفَت القرآن من خلال الترجمة، ويؤكد كونها قناةً مهمة في التعرف على ديننا، وكذا تُعرِّفنا نحن كذلك على أديانهم، وخاصة أنه تتعدَّد بالهند الطوائف والأديان.




هذا القول السابق يتعلق بالترجمة التي تهدف إلى نقل المعارف الصحيحة للأديان، لكن منهم من تلاعَبَ بهذه القناة لينقل الدين على غير أصله محرِّفًا في معاني الكلمات، وخير دليل ما فعله جاك بيرك حين ترجم القرآن الكريم، وفيه تقولُ - في المقدمة لكتاب ترجمات القرآن إلى أين؟ - الدكتورةُ زينب عبدالعزيز: سبع سنوات مضت منذ ظهور الطبعة الأولى في يناير 1994م، اعتَرَتْهَا العديدُ من المحاولات المنبتة للدفاع عن جاك بيرك وعن ترجمته المغلوطة لمعاني القرآن الكريم... وأيًّا كانت الأساليب التي اتبعها أصحابُ المحاولات من تمويه على الفريات، أو التحكم في وسائل الإعلام؛ لعدم ظهور الأصوات المدافعة عن كتاب الله وعن سيد المرسَلين صلوات الله وسلامه عليه، فقد خَبَا النقيع النشاز مدحورًا، ولم تبقَ سوى الحقائق مجردة... حقائق التلاعب والمخادعة لِلنَّيْلِ من الإسلام والمسلمين من جهة، وحقائق مَن قاموا بكشفها من جهة أخرى[9].




أما في الجانب المقابل، فنجد كذلك مترجمين من الطراز الرفيع، ومنها ثلاث ترجمات شهيرة معتمدة للقرآن الكريم، وهي ترجمة هلالي وخان وبيكثل وأربري، وهؤلاء من جهابذة المترجمين على مر العصور[10]، وإن كانت عليهم مؤاخذات في ترجماتهم.

وعليه؛ فإن الترجمة لا تخدم دائمًا هدفًا ساميًا لتعريف الشعوب على الأديان الأخرى، بل في بعض الأحيان تخدم الجانب السلبيَّ؛ عن طريق تزييف النص المترجَم، والتحريفِ والتلاعب فيه؛ ما يجعل بناءَ صورة خاطئة عن الأديان، وهذا الفهم المغلوط بطبيعة الحال ينقلب على طاولة الحوار؛ ما يجعل النقاشَ غير ممكن، بل يصبح الحوار أكثر عسرًا وتطرفًا في الفكر، وهذا يعطي الترجمةَ صفةَ الخيانة للنص، وإن كانت هي بريئة، بل المترجِم من يصبغها بتلك الصفة.




أما فيما يتعلق بترجمات الأديان الأخرى، ففي المسيحيَّة مثلًا قد كان العمل الترجمي وسيلة الكنيسة الدعويَّة الناجعة لتمسيح البشريَّة، وظلَّت هاته الدعوة إلى التصديق بما جاء في الإنجيل تُرافق النشاط الترجمي الذي لم يعد بالضرورة مقيدًا بترجمة النصوص الدينيَّة، بل مقيدًا بالنقل الأمين عمومًا، من ناحيَّة أخرى، إذا كان المترجم للنصوص المقدسة ينزل منزلة الوسيط بين المتكلم الإلهي والمكلَّف الإنساني، فلا بد له من أن يكون صادقًا أمينًا، تمامًا مثلَ المترجم للنصوص غير الدينيَّة الذي يقوم بدور الوسيط بين المؤلِّف والمترجم له[11].




زد على هذا أن ثمة موقفًا رافضًا بالمطلق للنشاط الترجمي، يعود تاريخه إلى الأدبيات التوراتيَّة التي ورد فيها أن العالم أظلَمَ ثلاثة أيام لما تُرجم الإنجيل إلى الإغريقيَّة، بل إن هناك ما يشير جليًّا في الكتاب المقدس إلى تفسيق المترجم للإنجيل، حسب ما قاله بول في رسالته الأولى للكورينثياس.

وأما الموقف الإيجابي من الترجمة، فيرى أن للترجمة رسالةً دينيَّة دعويَّة، فهذا مارتن لوثر الذي ترجم التوراة إلى الألمانيَّة، يعدُّ الترجمةَ واجبًا دينيًّا من أجلِ نشر التعاليم المسيحيَّة، ومن ثم تمكينها من الشعوب[12].




أما فيما يخص الموقف التوفيقي، فَمَثَّلَهُ الأصوليُّ الأندلسيُّ أبو إسحاق الشاطبيُّ في كتابه الموافقات، وابنُ قتيبة الذي استحسَنَ ترجمة معاني القرآن، وإن الشاطبي ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام حوار حضاري بنَّاء تختص به الترجمة التي تراعي الخصوصيَّة الدينيَّة والثقافيَّة لكل الشعوب[13].




وعلى آخر موقف نقف، ففيه الكثير من الصواب، إذ إن طبيعة الموضوع تحدد طبيعة المنهج؛ أي: إن المترجم يجب أن يراعي خصوصيَّة النص الذي يعمل على ترجمته؛ ليستعمل التقنيةَ المناسبة لذلك، قِسْ على هذا أن الترجمة بهذا الأساس، تعد عاملًا أساسيًّا في حوار الحضارات على مستوى الأديان، وخاصة فيما يتعلق بالنقل الصحيح للنص من لغته الأصليَّة إلى لغات أخرى، سواء أكان الأمر متعلقًا بالكتب الدينيَّة أم يتعلَّق بالسنن المرافقة والفكر المتأمل في معانيها؛ ليعلم كلُّ الأطراف بحقيقة الديانات الأخرى، وليتمكَّنَ من تأسيس أرضيَّة صُلبة لنقاش فعَّال وبنَّاء، تكون ركائزه الأساسيَّة مرتبطةً بالاحترام وتقدير الآخر؛ من أجل رفع شعار: (نعم للحوار بين الأديان، وألف لا للتطرف في الديانات).




[1] دليل المترجمين ومؤسسات الترجمة في الوطن العربي، المنظمة العربيَّة للتربيَّة والثقافة والعلوم، تونس، ص5.

[2] المرجع نفسه والصفحة نفسها.

[3] المرجع السابق، الصفحة 5.

[4] انظر: مريم سلامة كار، الترجمة في العصر العباسي (مدرسة حنين بن إسحاق وأهميتها في الترجمة)، مرجع سابق، بتصرف.

[5] نفسه، ص67.

[6] دليل المترجمين ومؤسسات الترجمة في الوطن العربي، المنظمة العربيَّة للتربيَّة والثقافة والعلوم، تونس، مرجع سابق، ص 5.

[7] المرجع السابق، ص 6.

[8] الباحث محمد سليم، الجمال الأدبي في ترجمة معاني القرآن الكريم: فتح الحميد للشيخ فتح محمد خان الجالندهري (الدراسة النقديَّة)، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربيَّة وآدابها، الكليَّة الشرقيَّة جامعة بنجاب، لاهور، 1420هـ - 2004م، ص5.

[9] زينب عبدالعزيز، ترجمات القرآن إلى أين؟ وجهان لجاك بيرك، مكتبة وهبة - القاهرة، الطبعة الأولى، 1425هـ - 2005م، ص5.

[10] الترجمة وإشكالات المثاقـفة، أعمال المؤتمر الذي أقامه منتدى العلاقات العربيَّة والدوليَّة في الدوحة، إعداد وتقديم: كجاب الإمام ومحمد عبدالعزيز، الطبعة الأولى 2014م، ص454.

[11] نفسه، ص466.

[12] نفسه، ص467.

[13] نفسه، ص468.


"
شارك المقالة:
22 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook