قناديل الحكم (8)

الكاتب: المدير -
قناديل الحكم (8)
"قناديل الحكم (8)




• مَن شُغِف حبًّا بما جُمع بين أيدي الناس مِن نعم وهبات، وألهاه حبُّ الدنيا والإقبال على الشهوات والفتن والملذَّات، غرِق في بحر من الأهواء، وذهبت ريحه في كل اتجاه، وتجاذبَتْه العللُ والأسقام، وران على قلبه الران، فصدِئ كما يصدأ الرتاج، وأظلمت بصيرتَه الغفلةُ والضلال، وسوَّدت صحيفتَه الذنوب والآثام، فسقط به في المنحدر والقاع، ولم تنفعه صولةُ المال والجاه.




• مَن لم يقنع بسقاء ولا زاد، ولا التذَّ بطعام ولا شراب، ولا سكن إلى مرقد أو وِساد، ولا ارتاح له خاطرٌ أو بال، سيظل في نصب العداء تلو العداء، ومقارعة مَن سما منابر العلم واعتلى المناصب، وأدرك الحظوة والجاه، ولا يُسعده إلا زوالُ النعم وحلول النقم على رؤوس أصحاب المنحِ والعطايا، وسقوط مَن ارتفع في المراتب والدرجات العلا، وبُغض من أفلح وارتقى.




• حين نخرُج إلى هذه الحياة الدنيا، فإننا نلتحف غطاءً أبيض مطرزًا ببشائر الميلاد، يزف أرواحنا النقية الشفَّافة، وحين يحل ميقاتُ الرحيل عن الديار ومفارقة الأهل والأحباب، نُودِّع الحياة الفانية ونُوضَع في الأكفان، وتلبسنا بلا طرازٍ، ويغطينا المسك، ويسجينا البياض، فتتخفف أجسادنا من أثقال الدنيا والأحمال، وتزف الأرواح الطاهرة إلى الروضات، وتبشَّر بالنعيم المقيم في الجنات، حاملة صحائفَها البيضاء المليئة بجلائل الأعمال وفضائل الخيرات، فالأبيض لا يليق إلا بأهل العفة والتقى والإيمان.

 

• لحظات الموت تذهلنا مهما كنا أقوياء، وترعبنا مهما كنا نحمل مِن يقين وثبات وإيمان، ولحظاتُ الموت أكبر من شموخنا، وأكبر من مشاعر الحب والكره، والعيون حينها لا تملك أن تطيل النظر في وجوه مَن تحب وتكره، كي تهمس إليهم بالكلمات الأخيرة والحروف التي كانت مبعثرة على أرصفة فصولها الماضية.

 

• إن لمعة الشعور بالتعلق بأهداب الحياة الفانية تنطفئ في حدقة تودِّع الشروق، وتصهرها حرارةُ الموت وسكراته، وإن الحقيقة التي تتجلَّى أمام الأحياء تختلف عن تلك التي يتجرع غصصَها ومُرَّها ذاك المودِّعُ الراحل عن ضفاف الحياة وشطآنها، بلا حقائب ولا تأشيرة سفر، ولا رسائل، ولا حروف ولا كلمات، فالموت يحتوي كل ذاك بين دفتَي كتابه وسطور أسراره العجيبة.

 

• مشكلتك تكمن في العقدة الآسرة لطريقة تفكيرك وأسلوب تحليلك للمشكلة، فلا تبحث عن ذريعة لمساوئك وأخطائك، ولا تبتكر الأعذار والمبررات لتصرفاتك المنحرفة، فمَن كان ذا منهج صحيح في التفكير وإدارة الوقت، يتخذه منحاه وطريقته المثلى في السلوك والمعاملات، ومَن تعوَّد على أن يفيد ويستفيد، ويعلِّم ويتعلَّم، فلن تتغير عاداته الحسنة بحسب الظروف وتبدُّل الأحوال، فمَن شبَّ على شيء شابَ عليه.

 

• إن العين الناقدة تُبصر الحقيقة بجلاء، وتكشف العيوب والأخطاء التي قد تختفي خلف ظلال الأذن غير الواعية بفنون الكلام، فليس مَن سمِع كمَن رأى فأشرقت بصيرتُه فوعى.

 

• هي أخلاقنا، إن لم يزيِّنها المعروف بفضائله، ولم يغرسها الإيمان في بساتينه وحدائقه، صارت سوقًا يتاجر فيه بالأعراض، ويساس فيه الخلائقُ بلا عقل ولا ميزان، وتُساق فيه القيمُ إلى كسادٍ وبوار، فأين نحن من أخلاق لا تصم الجباهَ بالخزي والعار!

 

• لا يليق بالجواهر واللآلئ الثمينة إلا أن تحتويَها قلائد الحسان، وأن تنظم في عقد فريد، ولا يليق بالمعاني الجميلة والمعارف إلا أن يحتويَها إكليل من الحروف والكلمات، يزيِّن سطور كتاب يسطع بجواهرها ولآلئها النفيسة.

 

• إذا أوحت إليك هذه النفس الأمَّارة بالسوء بخواطر السوء، فلا تُصْغِ لعُجمة لغتها التي لا تفقه أساليب خداعها ومكرها، وإلا ستورثك الشعورَ بالهزيمة في لحظات انكسارك، وستصدك عن الصاحب الأليف والسند المعين، وستصرفك عمَّن يشد ساعدك، ويبعث فيك النشاط والهمة، وستطفئ في حنايا روحك فتيلَ الطموح، وستفصل شريانك عن شريان الحياة السعيدة.

 

• أمُّك هي وطنك الذي لا يجود الزمان ولا المكان بمثله في الأمان والسلام، وإن حُزْتَ الدنيا بحذافيرها، وملكتَ كنوز الأرض بأسرها.

وأمك هي قلبك النابض الخافق في صدرك على الدوام، وأنفاسك التي لا تخونك وإن خانتك أنفاسُ الحياة، وسكنك الذي يحتويك كما يحتويك اللباس.

 

فيها الدفء، وفيها الحب والوداد، وفيها الحنان والرحمة المهداة، وفيها روحك بلا انفصام، وفيها أنت كما أنت بمحاسنك وعيوبك، وأفراحك ومسرَّاتك، وأحزانك وجروحك والآلام، وفيها أنت بقوتك وضعفك، وكلك وأجزائك بالتمام والنقصان، فأنت حبلها المشدود إلى رَحِمها منذ الميلاد إلى الوفاة، وأنت حملها ومخاضها، وأنت طفولتها وشبابها، وهَرَمها وشيخوختها، وفصولها الأربعة، بكل الألوان والصفات، ومهما أحببت فلن تجد نظير حبِّها في قواميس الحب والانسجام، ولن تجد لغةً تحاكي لغاتها في التعبير والإفصاح بلا مجاز ولا نغمات نشاز.

 

• تجنَّبْ أن تخطئ في حقِّ غيرك خطأ أكبر من قبول اعتذارك، أو أن تجرح أحدًا جرحًا غائرًا في أعماقه، يوغر صدره ببركان من شرار الغضب والصدود، فيصهر ما وقَر فيه من حلمٍ وصفح وغفران.

 

• الجمال ثريات في العيون تتلألأ، ورحيق يسقي الأرواح من مَعِين الشَّهد ولا ينضب، فيخلع عنها قيود الاستعباد، وأغلال الجسد الممزق بنصل الشهوات، والجمال في تلك النبضات التي لا يشيخ في شِريانِها الإحساس، ولا ينكسر في مجراها الصمود والشموخ.

 

• حين يسكن الصمت أروقة العابرين، يمتطي الكلام صهوةَ فارس يناطح السحاب بسيف التحدي؛ كي يمسك قطر الحروف والكلمات قبل أن يجف في لحظة هطول.

 

• حين يتسع ظمأ الحروب، يرتوي الكلام المكسور من دفق العيون، وتتسع السطور للآلام والجروح، وتهتز الأرض لجغرافية خرساء في زمن الصموت.

 

• الطفولة قد تصنع رجلًا ناجحًا أو فاشلًا بالحياة، قد تؤسس مكتبة وثقافة وإبداعًا وإنجازًا وابتكارًا، أو تهدمها لتخلف جهلًا وتسويفًا وإخفاقًا، والطفولة هي تلك البراعم التي تزهر وتتفتح، والنباتُ الذي يهيج ويخضر، أو تنحني ويجف غصنها الأُمْلُود، ويصيبها الاصفرارُ والذبول، والطفولة يحتويها بيت وأسرة، وأب وأم لها وطن، فإن لم يتمثلا مسؤولية التكليف والرعاية، أخرَجَا للمجتمع أجيالًا تبيد أجيالًا، وأخرَجَا للمجتمع تخلفًا يورث تخلفًا، ودمارًا نفسيًّا يلازمها؛ فالطفولةُ هي المجتمع، وهي التاريخ المشرق أو المظلم في حياة الأمم.


"
شارك المقالة:
23 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook