كل يبكي على ليلاه

الكاتب: المدير -
كل يبكي على ليلاه
"كل يبكي على ليلاه




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبعد:

تذكَّرتُ ليلى والسنينَ الخواليا
وأيامَ لا نخشى على اللهوِ ناهيَا
ويومٍ كظلِّ الرُّمحِ قصَّرتُ ظلَّهُ
بليلى فلهَّاني وما كنتُ لاهيَا

 

الذكرياتُ هي أجمل شيء لدى الإنسان يحاول الاحتفاظَ به على مدى حياته، ولا يفرِّط فيه مهما كانتِ الظروفُ؛ فهي الكنزُ الثمين المحفورُ في ذاكرته، فكلَّما مرَّت به السنون، وألَمَّت به المُلِمَّات، تذكَّرها ليُعِيد إلى نفسِه أيام الصبا التي فقدها بغيرِ إرادته، والتي يفتخِرُ ويتغنَّى بها أمام أبنائه وأحفاده.

 

وليس أحدٌ في الوجود إلا وله ذكرياتٌ يحِنُّ إليها، ويتحسَّر على ماضيها، وأعني بذلك الذكرياتِ الجميلةَ التي عاشها الإنسان في فترات مِن بداية حياته وفارَقَها وهو لا يتمنَّى فِراقها!

يا حبَّذا مصرُ لو دامَتْ مودَّتُها *** وهل يدومُ لحيٍّ في الورى سكنُ

 

إن أجمل وأحلى ما في ذاكرتي هي تلك الأيام التي ما زلتُ أذكرُها في طفولتي، وهي اجتماع أسرتي مع أُسَر جيراني على مائدة طعامٍ مشتركة، وعلى شرط ألا يشبع أحدُنا وجارُه جائعٌ! تطبيقٌ بالفطرة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن الذي يشبَعُ وجارُه جائعٌ إلى جنبه))؛ صححه الذهبي في التلخيص، والألباني في صحيح الأدب المفرد.

 

نعم مرَّت بنا أيامٌ لا يجدُ الكثيرُ منا فيها إدامًا يأتَدِمُ به في طعامه، فيجتمع الجيران على مائدة واحدةٍ في بيت مَن يوجد لديه قِطَع مِن اللحم ولو قليلة العدد، فيصنع منها طعامًا يجتمع عليه الجيران، وقد لا يجدون طعمَ اللحم لقلة دسَمِه؛ نظرًا لكثرةِ مائه، لكن بتقاسم السعادة والسرور بينهم شعروا بلذَّةٍ وطعمٍ لا ينسَونَه أبدًا، ولقد كنا أربعةَ جيران، وكان هذا حالنا، وغيرُنا من الجيران كذلك.

 

إن هذه الألفةَ والمحبة والترابط بين الأُسَر المتجاورةِ لِممَّا يُعزِّز في قلوب الناشئة معنى الجوار في الإسلام، ولو تذكَّرنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يُعزِّز هذه القيمةَ؛ كما في صحيح مسلم: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقةً فأكثِرْ ماءها وتعاهَدْ جيرانَك)) - لتأكَّدَتْ لدينا الثمرات التي نَجْنيها من هذا التعاهد المستمرِّ بين الجيران.

 

فهل سيبقى للحسد والحقد والشحناء مجالٌ في قلوب الجيران على بعضهم البعض؟

أظنكم ستوافقونني في الإجابة بأنه لا مجال لها إذا كان هذا هو حالَهم حقًّا.

ومِن تلك الذكريات أيضًا وقوفُ أهل القرية جميعًا في دعم مَن يرونه قد انهدم بيتُه القديم؛ بسبب تهالكه من دودة الأرض التي أكلت قشَّه وجريدَه القديم، فكلٌّ يقوم بإحضار ما يستطيع إحضارَه مِن سعف نخل، وجريد، وطين، وفي أيام وجيزةٍ يُصبِح قد اكتمل البيت في أجمل حُلَّة في ذلك الزمان، وهو عُشَّة مِن القش والجريد وسعف النخل والطين، يُبنَى على هيئة قُبَّة يحسُدُه عليها الكثير من أهل زمانه.

 

يا لها من أيام! مع ما فيها من البساطة تجعل القلب يحنُّ إليها؛ لِما تحمله من كل معاني الحب والصفاء والتضحية.

 

فهل مِن عودة إلى إحياء هذه القِيَم النبيلة التي افتقدناها بين الجيران المتقاربين؟

بل العجيب أن الأمر امتدَّ إلى أن أصبح التباعُدُ حتى بين الإِخوة الأشقاء المتجاورين، يمرُّ اليوم واليومان؛ يغيب من يغيب، ويمرض من يمرض، ويرقد في المشفى من يرقد، ولا يعلم بعضهم بحال بعض، فالله المستعان!

 

فهل تستحقُّ منا تلك الذكريات أن نبكي عليها؟

نعم والله، ولكنَّ بكاءنا لا يكفي، والذي يجب علينا أن نُحْيِيَ تلك الذكريات مِن جديد، وأن نُحدِّث أبناءنا عنها؛ ليأخذوا منها دروسًا وعِبَرًا؛ لعلها تُحْيِي قلوبَهم، وتوعي عقولهم، فتعود أواصر المحبة والترابط بين الجيران من جديد، وتتعدى منفعتها إلى الأمَّة بأجمعها، وهي التي يدعو إليها ديننا الحنيف.

 

فهل من عودة - أيها القراء الأعزاء - إلى تلك الذكريات الجميلة؛ ليعيشَها جيلُنا الجديد بنفسه، فيسعدَ بها كما سعدنا بها نحن مِن قبلُ؟

أترك الإجابة لكم، والله يحفظكم.


"
شارك المقالة:
52 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook