بعث الله تعالى الأنبياء عليهم السلام إلى الشعوب لإبلاغ رسالة التوحيد، فاختار لكل قوم نبيٌ منهم حتى يستطيع التواصل معهم بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، إلّا سيّد البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم قد بعثه الله تعالى إلى العالمين أجمعين، وقد ضرب الأنبياء عليهم السلام خير مثال بالصبر وتحمّل الأذى والعذاب من أقوامهم، فما كان من الأقوام الأوّلين إلا البغي والضلال والإصرار على الكفر والشرك متبعّين ملة آبائهم الأولين، فها هو نبيّ الله شعيب عليه السلام قد جاء إلى قوم مدين ليدعوهم للتوحيد، وأبوا واستكبروا أن يتّبعوا ديانته، ولم يقتصر سيدنا شعيب عليه السلام على الدعوة للتوحيد فقط بل تعدّى ذلك ليصبح مقوّماً لحياة قومه التي كانت تتصّف بالاعوجاج وسوء الأخلاق.
عاش سيدنا شعيب عليه السلام في القرن السادس عشر قبل الميلاد في قرية مدين الكائنة في أطراف الشام في الأردن، وتقع في الشمال الغربي لمنطقة الحجاز الواقعة في منطقة البدع في السعودية، جغرافياً فإنها تقع بين خطوط طول (30,34) و (30,35) شمالاً، وخطي عرض (00, 28) (00,29) شرقاً، وتربطه بسيّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام صلة قرابة؛ إذ إنّ الأخير يعتبر الجد الخامس لسيدنا شعيب.
قوم مدين هم قوم سيّدنا شُعيب عليه السلام، وقد أقاموا في مدنٍ أثريّة تضّم البيوت والمعابد المنحوتة في الصخور والجبال، ويُطلق عليها بمدائن شُعيب أو مغاير شعيب، ويُذكر في نصوص التوراة وفي آيات القرآن الكريم بأنّ سيدنا موسى عليه السلام قد صاهرهم، وقد عرف قوم مدين بالتطفيف بالمكيال والغش بالتجارة والأوزان و بأنّهم يبخسون أشياء الناس، وكانوا يعبدون الأيكة وهي عبارة عن الشجر الكبير الملتف، وتشبه بيوتهم بيوت قوم ثمود، وهي قريبة منها.
عُرف قوم مدين بالغش في التجارة، وكانوا يشتهرون بالتجارة والزراعة إلّا أنّهم اتخذوا من الغش والمكر والخداع نهجاً للتجارة، وكانوا يأكلون حق الآخرين، فقال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، فجاء إليهم شعيبٌ عليه السلام ينهاهم عن هذه الأفعال المشينة، لكنهم لم يبدوا أيّ تقبلاً بل أظهروا رفضهم وتذمّرهم مما يقول، واستمرّوا في حياتهم على الغش والضلال ليصل فيهم الضلال إلى الشرك بالله تعالى، وعلى الرّغم من محاولات شعيب عليه السلام دعوتهم إلى الله تعالى إلّا أنّهم أبوا واستكبروا وتوّعدوا شعيب عليه السلام ومن آمن معه بالتعذيب والطرد من المنطقة، مرّت السنين والقوم الظالمين على حالهم من البغي والضلال والشرك والغش، حتى أمر الله تعالى بإنزال العذاب بهم؛ إذ كان عقابهم بالصيحة.
اجتمعت كل الصفات السيئة في قوم مدين، إلى جانب شركهم بالله تعالى، فكانوا يعبدون الأشجار والنباتات وتسمى "الأيكة" وجاء ذكرهم في القرآن الكريم ببعض المواضع بأنهم أصحاب الأيكة، وعلى الرّغم مما بذله سيّدنا شعيب عليه السلام من جهود في ردع قومه عمّا يفعلون إلا أنه ما لقي منهم إلّا التهديد والوعيد بالأذى والقتل والضرب، فبدأ قومه بالتوعّد لشعيب ومن آمن معه بالطرد والتعذيب، وعمل على تذكيرهم بمحاسن الأخلاق والقيم، وأنه يوّد الخير لهم وكذّبوه وكذّبوا نبوّته حين أخبرهم بأنّه رسول من الله ليبلّغهم رسالات ربه، وبدأت المحاجة والجدل والتهكّم وذكّرهم بما تعرّضت له الشعوب السابقة من عذاب من ال تعالى كقوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام جميعاً، وفتح لهم سبل النجاة من غضب الله تعالى بالتوبة والعودة إلى الله تعالى والاستغفار لكن ما كان من قومه إلا أن زادوا تكبرّا وإعراضاً عنه.
أقيم لسيّدنا شعيب عليه السلام مقام في منطقة وادي شعيب جنوب مدينة السلط في محافظة البلقاء الأردنيّة على الطريق المؤدّي أو الأغوار الوسطى، وتطلّ منطقة وادي شعيب على وادي الأردن، وسمّيت المنطقة بوادي شعيب نسبةً لتواجد مقام نبي الله شعيب بها، ويعتبر هذا المقام من أبرز المواقع الأثرية والدينية في المملكة، ويتألف المبنى القديم للمقام من غرفة المقام تعلوها قبّة صغيرة يقع داخلها مقام سيدنا شعيب، وأصبح نقطة جذب للسياح من شتّى بقاع العالم؛ فالناظر للمقام يُلاحظ طول القامة التي كان عليها السلف في عهد الأنبياء، فسيّدنا شعيب عليه السلام يتبيّن من خلال مشاهدة مقامه بأنّ طول قامته قد يتجاوز المترين وثلاثة.