"لا إله إلا الله، إن للموت سكرات (2)"

الكاتب: المدير -
"لا إله إلا الله إن للموت سكرات (2)

 

المسألة الخامسة: حسن الظن بالله تعالى:

وقال الله تعالى: ? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [الزمر:53].

 

وقال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، واللهِ للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إليَّ شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إليَّ يمشي، أقبلت إليه أهرول[1].

 

وإذ إننا لمنهيُّون وعن سوء الظن به تعالى نهيًا! وأما نهيُه صلى الله عليه وسلم لنا، وكيما لا يقنط عبدٌ من رحمته، وكيما يرجو مسلم من رأفته، فعن جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عز وجل[2].

 

وحُسن ظن العبد بربه تعالى هو: ثقته، وأمنه، وملاذه، وسعادته، ورغده، وفلاحه، وحسن توكله، ويكأن كلَّ ذلك، وأن نعم، وإنما كان العمل من شرطه، وكيما تتوافق دعوى مع مدلولها! وقال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه: إن قومًا أَلْهَتْهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله تعالى: ? وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [فصلت: 23][3].

 

وقال القرطبي في المفهم: قيل: معنى ظن عبدٌ بي ظنَّ الإجابة عند الدعاء، وظنَّ القبول عند التوبة، وظنَّ المغفرة عند الاستغفار، وظنَّ المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكًا بصادق وعده[4].

 

المسألة السادسة: ربنا تعالى حسن التجاوز:

وإلا أنه هذا الموت، ولئن كان العبد ومن سببه، في انقطاع عن كل ما أنف، وإلا أنه ويَحدو مسلم أملًا خيرًا، وحين كان على وعد من ربِّه ومعه تعالى، وأنه تعالى يغفر الذنوب جميعًا، ويكأني أحسَبه حلولًا على الملكوت، وكان حقًّا من رب هذا الملكوت، أن يكرم ضعيفًا حلَّ بمنزله، وأن يأوي طريدًا كان قد جاء لمقامه، مسكينًا، ضعيفًا، منكسرًا، ذليلًا، حائرًا، طريدًا، وإلا من باب هذا الرب الكريم، وحسبُنا!

 

وحين قد ساقه إليه مولاه، وعن رحمة كان قد ارتداها، وسامًا اسمًا ووصفًا له تعالى معًا، وإمعانًا في هذه الرحمة، ولما كانت تسعة وتسعين جزءًا، وها هو ربُّنا تعالى قد أنزل منها جزءًا واحدًا؛ ليتراحم بها الخلائق، وحتى كان منها رحمة ناقة بولدها، ومن حافرها، ويكأنها لتذود عنه، ومنها هكذا وحشٌ كاسر! ومن رحمة على ولدها أيضًا! ومنها سائر الخلائق هكذا!

 

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة[5].

 

وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة، لم ييئَس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النار[6].

 

وحين أبقى ربُّنا تعالى لديه، ومن هذا الرحمة منها البقية، وحسابًا وعدًا، هي تسعة وتسعون جزءًا، ليرحم بها الضعفاء والعجزة، ومن كان ظالِمًا لنفسه، أو مقتصدًا، أو سابقًا بالخيرات، بإذن الله، وقال الله تعالى: ? ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ? [فاطر:32].

 

ويكأن هذا الرب الكريم الصفح، العظيم المن، الحسن التجاوز، الباسط اليدين بالرحمة، المظهر الجميل، الساتر القبيح، لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، عظيم العفو، واسع المغفرة، ومنتهى كل شكوى، وصاحب كل نجوى، ومبدئ النعم قبل استحقاقها.

 

ومنه وإذ إن من عزِّه عفوه، ومن عزه لطفه، ومن رحمته تجاوزه، بل حُسن تجاوزه، ومن ذلة عبد قد حلَّت رِكابها بمنزل مولاه أن يعزه، ومن بعد ذلة كانت له مع ربه فيها ساحات وأحوال وشجون!

 

وها قد علِمها ربُّه تعالى، ويوم أن أُوذي في الله تعالى، وما ضعف وما استكان ولأجله تعالى فاحتسب، ويوم أن حُبس وعُذب وطُورِد، ولمولاه فأبى إلا أن يعلي كلمة مولاه، ولئن اجتمعت الجن والإنس على أن يُزحزحوه شيئًا، فلم يلِن ولم يستكن، ولم تلن له قناة، وإلا قناة واحدة هي قناة العبودية لله، ولله تعالى، وحده لا سواه، وابتغاء رضاه، وحده تعالى في علاه! وإن جاء الكل عليه!

 

وها هو يومه يأتيه حالًّا على كريم، ذي مَنٍّ، وقادمًا على عظيم ذي فضل، وها هو يعطي من يمين ربه تعالى، أو هكذا كان حسن ظنه به، ولم يزل يكون، وكلتا يديه سبحانه يمين، سحًّا، غدقًا، مُجللًا، وإذ ليس تنفذ خزائنه، بل مَعينًا ليس ينضب، بل معينًا غدقًا غدقًا، أبدًا أبدًا!

 

وإذ ليس ينقص البحرُ مما فيه، وإلا كما ينقص المخيط، وحين أدخل فيه! ولله تعالى ربنا المثل الأعلى في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم! وقال الله تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [الروم:27]، وقال الله تعالى: ? وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ? [الأنعام: 3].

 

وهذا الذي أنف، وليس إلا ومن مقتضى حسن الظن بهذا الرب الكريم العفو حسن التجاوز، وحين حسن استحضار شيء من عمل العبد، لا على وجهٍ إلا وجهًا واحدًا، هو ذاك الذي يصاحب حالةَ الرجاء الغالبة، وقت حلول ملك الموت جاثمًا، وساعة مجيئه لا زائرًا بل قابضًا!

 

وحياة العبد دائرة بين خوف غالب من دنياه، ورجاء أغلب ومن وداعه دنياه وإلى أخراه.

 

المسألة السابعة: أكثروا ذكر هاذم اللذات:

ويكأنه هذا الموت، وكفاه أنه هادم اللذات، كل اللذات! أي قاطع اللذات! كل اللذات أيضًا،

 

فعن أبي هريرة: أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت[7].

 

ولهذا عُدَّ مِن أكيس الناس من كان لهذا الموت أكثر ذكرًا، ولأنه وإن لم يعاينه، وإلا أنه ويكأنه يعاينه! حالة واقعة! فيفطمه عن الإثم فطمًا، ويرده عن الذنب ردًّا! ويحول بينه وبين المعصية حولًا، ويمنعه عن الخطيئة منعًا، فعن عبد الله بن عمر: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل من الأنصار، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقًا، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس[8].

 

ولذا أيضًا كان من تسمية نبينا صلى الله عليه وسلم له أنه هو ذلكم المجهز، أي الذي تكون منه القاضية، القاطعة، الهاذمة، الهادمة، الحاسرة، الحائلة، الموجبة!

 

فعن أبي هريرة: بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنًى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مُجهزًا، أو الدجال فشرُّ غائب يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر[9].

 

على أن كراهية الموت أمر فطري، وعلى أن محبة المال شأن جِبِلِّي، وهذا الذي أشار إليه حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قال: اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب[10].

 

وعلى أن هذا الموت، وحين قد جعله الله تعالى من علوم غيبه تعالى، فدل على عِظَم شأنه، وكما أوجب خطورة وقعته، وكما برهَن على شدته وضراوته! وحين قال الله تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? [لقمان:34].

 

وعلى أن هذا الموت لا فرار منه، وإن فر الناس! ولا مهرب منه، وإن هرب الناس! ولأنه لواقع بصاحبه لا محالة، وحين قد حلَّ الأجل المعدود عدًّا، والمعلوم علمًا، ولما انقضى العمر، وعلى ذكر القرآن الكريم كذلكم، وحين قال الله تعالى: ? وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ? [الأعراف:34].

 

وهذا موجب العمل والخشية، والاستعداد له ولما بعده؛ ولأنه هو هذا النزيل الفجائي، ويكأنه هو هذا الحالُّ! ومن لا موعد مسبقًا، وإذ ليس قد أملى علينا يومًا أنه يستأذن أحدًا!

 

وأما حديث أنه استأذن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يصح، وقال الله تعالى: ? قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? [الجمعة:8]، وقال تعالى: ? أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ? بالنساء:78]، وقال الله تعالى: ? وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [المنافقون: 11-10].

 

وعلى أنه هو ذلكم النزيل، الحالُّ، المباغت، المفاجئ!

وقال الله تعالى: ? وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ? [الزمر:55].

 

وعلى أن حلوله موجب النظر، والعبر، والبصر، والذكرى، والخوف، والوجل، والنصب، والعمل! وقال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر:18].

 

ويكأننا وحسبنا أنه شديد، شدة أنه موت! ووداع! وفراق! لشأن كان! ولقاء جديد لشأن يكون! في حياة أخرى جديدة، فيها ما فيها، من أحداثها، وعليها ما عليها من أحوالها، ودرجاتها وطبقاتها والله المستعان.

 

المسألة الثامنة: موجبات شدة الموت!

ودلنا على هذا الموت وشدته ثلاث عظام:

وأما أولاها: فهو مقدماته:ومن هذه الحمى التي كانت قد أصابت نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وحلت بجسده الكريم الطاهر، وهو نبي! فما بال الناس وبغير النبي؟! وإذا كانت هذه الحمي قد طلب لها سبع قرب من الماء؛ لإطفاء نارها، بل بعض من شررها، ولهيبها، ولهذا النبي! وما بال من سواه أيضًا؟!

 

وهذا بيان الإعداد، وهذا برهان التجهز؛ ولأنه تعالى أرأف بنا مما سوانا! وأوله نفوسنا التي بين جنوبنا، فإن لنا ربًّا رحيمًا يكلؤنا، ويرحمنا، وحين قد أذن ربنا ومولانا بيوم كان مأذونًا لنا فيه لقاؤه! وحسبنا أنه هو الله تعالى الرؤوف البر الرحيم سبحانه!

 

وأما ثانيها: فهو هذه الشدة:وهو هذه الوعكة، وحتى كان من شأنها أنها كان من سببها هكذا انطراحه صلى الله عليه وسلم على صدر زوجه الحانية عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

 

وأي شدة هذه؟! وهذه التي يتلقى منها ومن موجبها مثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولكنه وحسبنا أيضًا أنها مكفرات، وأنها وحسبنا أيضًا، ومن دلالات هذه الحالة التي كان من وصفها أنها موت! لا حراك فيه، ولا سكنات، ولا لفظات، ولا كلمات، ولا همهمات، ولا خلجات، ولا شكايات، ولا ترحات، ولا فرحات، ولا حركات! ومن بعد هذا الذي أسماه خالقه تعالى، وأنه موت!

 

وأما ثالثها: فهو هذه السكرات:وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات؛ فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن وبيده السواك، وأنا مسندةٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: أُلينه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فليَّنته، فأمره، وبين يديه ركوة - أو علبة، يشك عمر - فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده، فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده[11].

 

وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات.

 

بقي القول: إن هذا كله، أو بعضًا منه، أو قليله، أو كثيره، وإذ ليس يعد برهانًا على شيء شرعًا ودينًا، فليس يدل على أنها علامة حسن الخاتمة، وحين ليس يعاني آحاد الناس مما أنف من شيء، وكما أنه ليس برهانًا على سوء الخاتمة أيضًا، وحين قد ألم ببنينا صلى الله عليه وسلم هذه الثلاث كلها مجتمعة.

 

المسألة التاسعة: تسرية وتسلية:

ويكأننا وحسبنا أنها علامات على التكفير، وبراهين على التمحيص والابتلاء، وحتى يلقى العبد ربه تعالى وليس عليه خطيئة.

 

وهذا هو الذي أفيده من ظاهر عموم الحديث النبوي الكريم، بل إن دلالته لتتعدى، ومن كونه بلاء وحسب، وإلى أنه برهان محبة أيضًا! وإن قيل: وإن كان دليل محبة، فلم لم ينج منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والحال كما تقولون!

 

وأقول: وأن نعم، فإن الله تعالى له أحكامه، وحكمه، وأقداره، وتفردات أخباره، وأنبائه، وهذا أولًا.

 

وأما ثانيًا، فإنه وكيما يكون تسرية عما سوى هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وكيما يكون تسلية لكل أحد من بلواه، وحين يعاين شدتها، وبل كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم متقلبًا بين هذا وهذا، وإبان حياته، وها هو الآن يعتصر بها، وحين فراقه دنياه، وحين قد رأيناه مخيرًا، وليقول صلى الله عليه وسلم: في الرفيق الأعلى!

 

ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة[12].

 

وعن عائشة أم المؤمنين مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم[13].

 

المسألة العاشرة: ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ? [فصلت:44]:

ولكن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد ترك لنا إرثًا نبويًّا عظيمًا في التطبب والعلاج، وحين قد مر بنا أمره بهذه السبعة القرب من الماء، وحين أمرهم أن يُهريقوها عليه صلى الله عليه وسلم، وقد مر بنا بيان أهمية الماء في التطبب، وهذا أمر أجمعت عليه المجامع الطبية، في يوم الناس هذا، وفي غير يوم الناس هذا، وبرهان أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أنه كان من أبناء الصحراء، وأن نعم، وإلا أنه كان نبيًّا رسولًا، وإذ ليس ينطق إلا صدقًا، إذ عد قوله وحيًا، وكما قال الله تعالى: ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ? [النجم: 3و4].

 

ومما يعد ما تركه لنا شأن التطبب والعلاج ميراثًا نبويًّا عظيمًا، حسن الأخذ به، وترسمه، وتتبعه، وإن شاء الله تعالى لن يضير أمتنا شيء، بل كسبًا كسبًا، بل فوزًا فوزًا أيضًا! وحين اتبعوا هذا النبي الأمي، وكما قد أثنى ربنا تعالى على تابعيه، وبقوله تعالى: ? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? [الأعراف:157-158].

 

وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ كان يقرأ على نفسه المعوذات، وفي بيان ضاف أن الاستشفاء بهذا القرآن هدي نبي كريم، فعن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه[14].

 

وهذا بيان القرآن عن القرآن أيضًا، وإذ ولما كان سبيلًا لصلاح حال الناس، ومن معاشهم، ومن معادهم، فإنه لا شك وقد كان من معاشهم هو كونه علاجًا وترياقًا لأدوائهم، وإن تعددت، وإنه أشفى من أمراضهم، ولو كان أوفى! بل يحسن اتخاذه علاجًا لداء عرفناه، أو قد جهلناه؛ ولأنه شفاء!

 

وقولنا: إنه شفاء، يعني أنه شفاء، وبمعنى البرء من السقم، ودون آثار جانبية! ومن هذه التي نقرأ عنها، وحين نفاتح علاجًا اشتريناه، وإذ ولربما كانت آثاره الجانبية أشد وأعتى، ومن كونه علاجًا لهذا الداء أو ذاك!

 

ولهذا حسن تتبع هذا القرآن الكريم أبدًا أبدًا، وِردًا وِردًا، وجزءًا جزءًا؛ وكيما يكون العبد من حصانة، وكيما يضحى العبد من مناعة!

 

إننا لسنا بحاجة كثيرًا إلى إثبات أن قرآننا شفاء، ومن أقوال غيرنا - غير المسلمين - بل لأننا نوقن هذا، ونعتقده ونلزمه، ونعتد به، ونؤمن به، وسواء قالوا عن قرآننا إنه شفاء، أو دواء، أو لم يقولوا! وحسبنا أيضًا.

 

وقال الله تعالى: ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ? [الإسراء:82].

 

وقال الله تعالى: ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ? [فصلت:44].

 

وقال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ? [يونس: 57].

 

وحديث اللديغ مشهور، وحين شرط الصحب الكرام على أهل محلة أن يعالجوا سيد محلهم اللديغ، وحين لدغته عقرب! ولما اشترطوا عليهم جعلًا؛ أي: أجرًا، ومن ثم قرؤوا عليه فاتحة الكتاب، أم القرآن، السبع المثاني، فبرئ، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على فعلهم هذا، وبقوله: وما يدريك أنها رقية؟

 

ولكن الصحب الكرام البررة، وحين اتخذوا هذا الموقف، وليكون لنا سننًا وهديًا حسنًا في الاستشفاء بهذا القرآن، ومن أي مرض كان!

 

وهذه هي الطلاقة العجيبة، لهذه القدرة الربانية المدهشة! وحين أودع كتابه ترياقًا، ولما كان هذا الكتاب هدى وشفاءً ورحمة للمؤمنين!

 

فإن هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كان يقرأ المعوذات، وهذه هي عائشة أم المؤمنين كانت تقرأ المعوذات، ومن حمى، وهؤلاء هم الصحب الكرام البررة، يرقون اللديغ، وبفاتحة الكتاب، أم القرآن، السبع المثاني.

 

وكذا، ومن خلال العرض السالف لآي الذكر الحكيم، وحين جاءت عامة لكل مريض، ويكأنها عامة لكل مرض أيضًا! وهذه منح السماء للعباد، وكيما يتخذوا ومن هذا الكتاب مرجعًا شفائيًّا أصيلًا، ولكل مريض، ولكل داء أيضًا!

 

فعن أبي سعيد الخدري انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا؛ لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه؛ فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين)، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم[15].

 

وعلى أن المعوذات هن سور الإخلاص، والفلق، والناس.

 

وعلى أن هذه الزوجة الحانية، وإذ كانت تقرأ المعوذات على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ملمح آخر، وعلى هذا العلاقة الآصرة، الآسرة أيضًا، ومن بين زوجين مسلمين، ومن بيت النبوة هذا الكريم، وكيما يكون قدوة، وأسوة، وهديًا، وسننًا حسنًا، وفي بيوت الناس أجمعين، وقال الله تعالى: ? لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ? [الأحزاب:21].




[1] [صحيح مسلم: 2675].

[2] [صحيح مسلم: 2877].

[3] [تفسير القرطبي، القرطبي: ج 15/ 353].

[4] [تحفة الأحوذي، المباركفوري: ج 7/ 54].

[5] [صحيح مسلم: 2752].

[6] [صحيح البخاري: 6469].

[7] [صحيح الترمذي، الألباني: 2307].

[8] [صحيح ابن ماجه، الألباني: 3454].

[9] [ضعيف الترمذي، الألباني: 2306].

[10] [السلسلة الصحيحة، الألباني: 813].

[11] [صحيح البخاري: 4449].

[12] [صحيح الترمذي، الألباني: 2399].

[13] [صحيح البخاري: 4446].

[14] [صحيح البخاري: 4439].

[15] [صحيح البخاري: 2276].


"
شارك المقالة:
39 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook