لا تتهم الله في شيء قضى لك به

الكاتب: المدير -
لا تتهم الله في شيء قضى لك به
"لا تتهم الله في شيء قضى لك به




عن عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه قال: إن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ الله، أيُّ العمل أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهاد في سبيله))، قال: أريد أهونَ من ذلك يا رسول الله، قال: ((السماحة والصبر))، قال: أريد أهونَ من ذلك يا رسول الله، قال: ((لا تَتَّهِمِ اللهَ في شيء قضى لك به))؛ الصحيحة.




فقوله في الأُولى: أريد أهون من ذلك؛ أي: من الجهاد، لا أهون من الإيمان؛ فإنه لا يقوم مقامَه شيءٌ.

وقال الحسن البصري عن الصبر والسماحة: (الصبر عن محارم الله، والسماحة بأداء فرائض الله)، كما فسِّرت السماحة بمسامحة العباد والإحسان إليهم.




وأما قوله: ((لا تتهم الله في شيء قضى لك به))، فقد قال السندي: (أي: لا ترَ أنه أساء إليك فيما قضى به عليك، بل اعتقد أن كلَّ ذلك مما هو مقتضى الحكمة).




فالشر الذي يصيب المسلمَ ليس مقصودًا ابتداءً، بل هو خير في حقيقته، وأفعالُ الله تعالى كلها حكمة، تدور بين الفضل والعدل، وأن كل ما هو بالنسبة للإنسان شر لأنه لا يلائمه، هو باعتبار نسبته إلى الله خيرٌ؛ لأن الله تعالى لم يقدِّرْه إلا لحكمة بالغة.




قال الغزالي في إحياء علوم الدين: (فحكمة الله واسعة، وهو بمصالح العباد أعلمُ من العباد، وغدًا يشكره العباد على البلايا إذا رأَوا ثواب الله على البلايا، كما يشكر الصبيُّ بعد العقل والبلوغ أستاذَه وأباه على ضربه وتأديبه؛ إذ يدرك ثمرة ما استفاده من التأديب، والبلاءُ من الله تعالى تأديب، وعنايته بعباده أتمُّ وأوفر من عناية الآباء بالأولاد).




فالعبد المؤمن أمره خيرٌ في جميع أحواله، ومهما أصابه وحلَّ به، وقد يريد العبد شيئًا والخيرُ في عكسه؛ قال تعالى: ? وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ? [البقرة: 216]، وقد يستخير ربَّه في أمر من أمور دنياه، من زواج أو غير ذلك، ويرى فيما بعد أن الزوجة لا تناسبه، فيسخط حسن اختيار الله له، وهو لا يعلم العواقب؛ قال تعالى: ? وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ? [النساء: 19].




والرب سبحانه أعلم بالعواقب وأعلم بالعبد من نفسه، ولا يريد لعبده إلا ما هو خير له، ولا يقضي له قضاءً إلا كان خيرًا له.

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبت للمؤمن؛ إن الله تعالى لم يقضِ له قضاءً إلا كان خيرًا له))؛ صحيح الجامع.




والشر اليسير الذي قد يضيق به العبدُ ذرعًا إذا كان وسيلة إلى خيرٍ كثيرٍ، كان ارتكابه مصلحةً لا مفسدة؛ ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريهِ وغيرها من الأمور المؤلِمة؛ لكونها وسيلة إلى حصول الصحة يحسُن ارتكابها في مقتضى الحكمة، ويعد خيرًا لا شرًّا، وصحة لا مرضًا؛ لاستلزامه ذلك، فكذلك كل ما قضاه الله من الشر فإنما قضاه بحكمة بالغة، وهو وسيلة إلى خيرٍ أعظَمَ وأعم نفعًا.




وقد ذكر الله في كتابه العزيز حبَّه لأصناف من الناس:

فقال: ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? [البقرة: 195].

وقال: ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ? [التوبة: 7].

وقال: ? وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ? [آل عمران: 146].

وقال: ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ? [آل عمران: 159].

وقال: ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ? [الممتحنة: 8].

وقال: ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ? [البقرة: 222].




فالعبد إن لم يكن في طليعة هؤلاء الأصناف، فهو لا شك فيه خصلة أو خصال من هؤلاء المذكورين تدلُّ على حب الله له، فإذا علم هذا وأدرك مدى حب ربه له، فإن هذا من شأنه أن يدفعه ألا يتهم اللهَ تعالى في قضائه، وكيف لا وقد أيقن أن ربَّه لا يريد له إلا الخير، وأنه ما خلقه ليعذِّبَه؟ ? وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ? [آل عمران: 108]، بل خلقه بيدِه وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، ليدخله الجنة إذا نجح في الامتحان، ومن ثَم فإن كل قضاء يقضيه له ما هو إلا خطوة يمهد له من خلالها طريقه إلى تلك الدار، والأقدارُ المؤلمة والبلايا ما هي في الحقيقة إلا نِعَم؛ قال ابن تيمية: (فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبُها بسببها في معاصٍ أعظَمَ مما كان قبل ذلك، فيكون شرًّا عليه من جهةِ ما أصابه في دينه).




ومن الخصال التي ينالها المصاب:

1- توبته ورجوعه إلى ربه: فالمصائب سببها الذنوب؛ قال تعالى: ? وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ? [الشورى: 30]، وقد يصاب العبد حتى في أولاده بسببه، فتأتي المصيبة كالصفعة التي تجعله يُفيق من غفلته، وقد يتوب بعدها توبةً تكون سببًا في دخوله الجنة.




2- التمحيص والتنقية: قال تعالى: ? وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? [آل عمران: 141]، وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمن كمثل الخَامَةِ من الزرع، تُفِيئُها الريح، تصرعها مرة، وتعدلها أخرى، حتى تهيج، ومثَلُ الكافر كمثَلِ الأَرْزَةِ المُجْذِيَةِ على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجِعافُها مرةً واحدة))؛ رواه مسلم.




فالبلاء ما جاء ليُهلِك المؤمن؛ وإنما جاء ليمتحن الله به ويبتلي؛ قال تعالى: ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ? [العنكبوت: 2، 3]، فيتبين حينئذٍ: هل يصلح أن يكون من أولياء الله وحزبه أم لا؟ ومن جهة أخرى، فالبلاء تذكير بحقيقة الدنيا، وأنها ليست دار بقاء فيغتر بها المؤمن، بل هي دار فناء؛ قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ? [فاطر: 5].




3- تكفير السيئات: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَما نزلت: ? مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ? [النساء: 123]، بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قارِبوا وسدِّدوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة يُنكَبُها، أو الشوكة يشاكها))؛ رواه مسلم.




وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده، حتى يلقى الله تعالى وما عليه من خطيئة))؛ المشكاة.




4- هداية الله: قال تعالى: ? مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ? [التغابن: 11]، فقوله ? بِإِذْنِ اللَّهِ ?؛ أي: بقدره ومشيئته وإرادته الكونية القدرية، وحكمته التامة، فمن أصابَتْه مصيبة فعلِم أنها من قدر الله، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوَّضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخَذ منه، أو خيرًا منه.




5- صلوات الله ورحمته: قال الله تعالى: ? الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? [البقرة: 156، 157]، قيل: الرحمة ليست من الصلوات؛ لأن الواو تقتضي المغايرة، وهذا غير صحيح، فقد يأتي الخاص معطوفًا بالواو على العام لمزيَّتِه؛ كقوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة: 277]، وكقوله: ? مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ? [البقرة: 98]، فالصلاة من الأعمال الصالحة، بل من أفضلها، وكذلك جبريل من أفضل الملائكة، وكذلك الرحمة هي من أفضل الصلوات، فقد ذكر الله لنا دعاء الملائكة لإبراهيم، فقال: ? قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ? [هود: 73]، وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد))؛ متفق عليه.




قال السهيلي: (معنى الصلاة: اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف، إلا أن الحنو والعطف يكون محسوسًا ومعقولًا، فيضاف إلى الله تعالى منه ما يليق بجلاله، ويُنفى عنه ما يتقدس عنه).




قال ثابت البناني: مات عبدالله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادَّهن، فغضبوا، وقالوا: يموت عبدالله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهنًا؟! قال: أفأستكين لها، وعَدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، قال الله تعالى:? الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? [البقرة: 156، 157].




6- رضا الله: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط))؛ صحيح الترمذي.




7- تكتب له كل الأعمال الصالحة التي كان يعملها وهو معافى: عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن أحد من الناس يصابُ ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه، قال: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خيرٍ، ما كان في وَثاقي))؛ صحيح الترغيب والترهيب.




8- ترفع منزلته في الجنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليكونُ له عند الله المنزلة، فما يبلُغُها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يُبلغه إياها))؛ الصحيحة.




ولكي ينال العبد كلَّ هذه الخصال؛ لا بد له من تحقيق أمور؛ هي:

1- الصبر:وهو واجب في القضاء الذي هو فعل الله، وفي المقضيِّ الذي هو فعل المخلوق، فيرى أن هذا المقضي ثقيل عليه، لكنه يتحمله وهو يكره وقوعه، ولكن يحميه إيمانُه من السخط.




ومن حسن الصبر:

• استعماله في أول صدمة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))؛ متفق عليه.




• الاسترجاع عند المصيبة؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها - وهو من رواية مسلم - أنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول: ما أمره الله: ? إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ? [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته، وأخلَفَ له خيرًا منها))؛ وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة)).




• ألَّا يظهر أثر المصيبة على المصاب، كما فعلت أم سُليم امرأةُ أبي طلحة لَما مات ابنها، وحديثها مشهور في صحيح مسلم.

• عدم الشكوى إلى العباد: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكُني إلى عوَّاده، أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثم يستأنف العمل))؛ صحيح الترغيب والترهيب.




وقال عليٌّ رضي الله عنه: مِن إجلال الله ومعرفة حقه ألا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك.

وقد تكون كثرة الشكوى سببًا في دخول النار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: ((تَصدَّقن، فإن أكثركن حطب جهنم...؛ لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير))؛ رواه مسلم.




ولا شك أن الشكاية جائزة عند الاضطرار؛ كالتظلم للقاضي، وذكر المرض للطبيب، لكنها إذا كثُرت لأدنى سبب، دلَّ ذلك على عدم الصبر على قضاء الله تعالى، فيكون متعلقًا بالله تعالى، فيقتضي دخول النار.




وتجوز الشكوى للعباد لحملهم على الصبر بالتأسي؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لَمَّا قالت: وا رأساه! فقال لها: ((بل أنا وا رأساه!))؛ أي: لا تشتكي واصبري، فبي من الوجع أكثر منك فتأسي بي، وشكا رجل إلى الأحنف شكوى، فقال: (يا بن أخي، لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد).




أما الشكوى إلى الله، فلا تنافي الصبر، بل هي من أعظم القربات؛ فإن الله أخبر عن يعقوب عليه الصلاة والسلام بقوله: ? إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ? [يوسف: 86]، وأخبر عن أيوب عليه الصلاة والسلام بقوله: ? وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? [الأنبياء: 83]، وقال الله تعالى عنه: ? إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ? [ص: 44].




• سكون الجوارح واللسان: فأما البكاء، فجائز، فقد قال الله عن يعقوب صلى الله عليه وسلم: ? وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ? [يوسف: 84]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا))؛ صحيح أبي داود.




2 - الرضا: وهو واجب في القضاء، ومستحبٌّ في المقضي، وذلك بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواءً، فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملًا ثقيلًا؛ لعلمه أنها كانت واقعة لا محالة، فوقوعها مقدَّر قبل أن يخلُقَ الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى: ? مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ? [الحديد: 22]، وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء))؛ رواه مسلم.




وعن زيد بن ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ولو أنفقت مثل أُحُد في سبيل الله، ما قبِله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متَّ على غير هذا لدخلتَ النار))؛ صحيح الجامع.




فأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلِي وخِيرَتَه لعبده في البلاء، وأنه غير متَّهم في قضائه، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء، فيُنسيهم ألمَ المقضي به؛ لعلمهم أن الله قد ارتضاه لهم واختاره وقسمه، وأن العبودية تقتضي رضاهم بما رضي لهم به سيدُهم ومولاهم؛ فعن أبي سعيد رضي الله عنه: أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوكٌ عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة، فقال: ما أشدَّ حمَّاك يا رسول الله! قال: ((إنَّا كذلك يشدد علينا البلاء، ويُضاعف لنا الأجر))، ثم قال: يا رسول الله، مَن أشد الناس بلاءً؟ قال: ((الأنبياء))، قال: ثم مَن؟ قال: ((العلماء))، قال: ثم مَن؟ قال: ((الصالحون، وكان أحدهم يُبتلى بالقمل حتى يقتله، ويُبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدُهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء))؛ صحيح الترغيب والترهيب.




3 - الشكر: وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله عز وجل على ما أصابه من مصيبة؛ حيث يدرك أن هذه المصيبة نعمةٌ أفاقَتْه من غفلته، وتكون سببًا لتكفير سيئاته، وربما لزيادة الحسنات ودخوله الجنة؛ عن شداد بن أوس والصنابحي أنهما دخلا على رجل مريض يعودانِه، فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة، فقال له شداد: أبشِرْ بكفارات السيئات وحط الخطايا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل يقول: إذا أنا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيومَ ولدَتْه أمُّه من الخطايا، ويقول الرب تبارك وتعالى: أنا قيدت عبدي وابتليته، فأَجْروا له ما كنتم تُجْرون له وهو صحيح))؛ صحيح الترغيب والترهيب.




وعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد، بعَث الله إليه ملكينِ، فقال: انظروا ما يقول لعوَّاده، فإن هو إذا جاؤوه حمِد الله وأثنى عليه، رفعَا ذلك إلى الله - وهو أعلم - فيقول: لعبدي عليَّ إنْ توفيتُه أن أُدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أُبدله لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، وأن أكفِّر عنه سيئاته))؛ صحيح الترغيب والترهيب.




وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكتِه: قبضتُم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمِدك واسترجع، فيقول: ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيتَ الحمد))؛ صحيح الترغيب والترهيب.




وكان صِلَةُ بنُ أَشْيَمَ في مَغْزًى له ومعه ابنه، فقال: أيْ بُني، تقدَّم فقاتِل حتى أحتسبَك، فحمَل فقاتَل حتى قُتل، ثم تقدَّم فقُتل، فاجتمع النساء عند أمِّه معاذةَ العدويةِ، فقالت: مرحبًا إن كنتنَّ جئتُنَّ تهنِّئنَني، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجِعْنَ.

وقال رجل للإمام أحمد: كيف تجدُك يا أبا عبدالله؟ قال: بخير في عافية، فقال له: حُممتَ البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسْبُك، لا تُخرجني إلى ما أكره.




فإذا أُصيبَ العبد بالبلاء، فلا يتهِم الله في قضائه، وليعلم أن ما أصيب به هو في حقيقته نعمة؛ إذ إن شرائع الله كلها متفقةٌ على النظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وكذلك أحكام القضاء والقدر جاريةٌ على سنن ذلك، وإن خفي وجهُ ذلك على الناس في كثير منها، فليرجع إلى ربه وليصبر وليحتسب وليشكر؛ فقد قال تعالى: ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر: 10]، وسيرى ذلك عيانًا يوم القيامة حين يرى ثواب البلاء فيحمد ربَّه عليه، ويُغبَط على البلاء الذي أصابه؛ عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يودُّ أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثوابَ، لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض))؛ صحيح الترمذي.




? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ? [سبأ: 1]، ? وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? [القصص: 70].


"
شارك المقالة:
20 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook