(لا تخف ولا تحزن.. ولا تخافي ولا تحزني)

الكاتب: المدير -
(لا تخف ولا تحزن.. ولا تخافي ولا تحزني)
"(لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ... وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فقد خلق الإنسان في تعب ومشقة؛ قال الله عز وجل: ? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ? [البلد:4]،فلا بد للإنسان في هذه الدنيا من وجود شدائد تُحزنه، فمن رام دنيا بلا أحزان ولا مصائب ولا أكدار، فقد طلب مستحيلًا، فالدنيا دار الشدة والضنك، ولهذا كانت الجنة دار لا أحزان فيها؛ قال الله سبحانه وتعالى: ? وقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ? [فاطر: 34 ]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: كمال الفرح والسرور لأهل الجنة؛ لقوله تعالى: ? أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ? [فاطر: 34]، فإذا كان الحزن منفيًا عنهم، كان ذلك دليلًا على كمال سرورهم، وأنه سرور لا يُشابُ بحزن أبدًا، بخلاف سرور الدنيا، فإن سرور الدنيا مهم عظم مشوب بالكدر.




فالدنيا لا بد أن يوجد فيها أشياء تكدر، تُحزن الإنسان وتُقلقه، فينبغي له أن يوطن نفسه أنه سيحدث له ما يَحزنه، ويجعله يخاف، وقد حدث ذلك لأفضل الخلق، الأنبياء والرسل؛ قال الله عز وجل: ? وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ ? [العنكبوت:33]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الأنبياء كغيرهم من البشر يلحقهم المساءةُ والأحزان والسرور؛ لقوله عز وجل: ? سِيءَ بِهِمْ ?، وقال عز وجل: ? إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ ? [ص:22]، قال العلامة العثيمين رحمه الله: من فوائدها: أن الأنبياء يلحقهم من الطبائع البشرية ما يلحق غيرهم؛ لقوله: ? فَفَزِعَ مِنْهُمْ ?؛ حيث لحقه الفزع كما يلحق سائر الناس.




وقال عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام: ? فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ? [القصص:18]، ? فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ? [الشعراء:21]، وقال سبحانه وتعالى: ? وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ? [القصص:31]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: يجوز على الأنبياء ما يجوز على غيرهم من الخوف الطبيعي؛ لقوله تعالى: ? وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ?، والآيات في هذا كثيرة.




وقال الله جل جلاله: ? إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ ? [ص:22]، قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ? فَفَزِعَ مِنْهُمْ ?؛ وذلك لأنهما أتياه ليلًا في غير وقت الخصوم، ودخلوا عليه بغير أذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس.

 

وكل خائف حزين، وكل حزين خائف، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: المكروه الذي ينزل بالعبد متى علم بحصوله، فهو خائف منه أن يقع به، وإذا وقع فهو حزين على ما أصابه منه، فهو دائم في خوف وحزن، فكل خائف حزين، وكل حزين خائف، وكل من الخوف والحزن يكون على فوت المحبوب وحصول المكروه.

 

وقال رحمه الله: الحزن نهى سبحانه عنه في غير موضع؛ كقوله تعالى: ? وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [آل عمران: 139]، وقال تعالى: ? وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ? [النحل: 127]، وقال تعالى: ? فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ? [المائدة: 26]، وقال تعالى: ? إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ? [التوبة: 40]، فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ? [فاطر: 34]، فحمدوه سبحانه أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها.

 

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن...)، فالهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل، فهو الهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه، وذلك لأن الحزن يُضعف القلب، ويُوهن العزم، ويغير الإرادة، ولا شيء أحبُّ إلى الشيطان من حزن المؤمن؛ قال تعالى: ? إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ? [المجادلة: 10].




فالحزن مرض من أمراض القلب، يَمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب على المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما.

 

فإذا نزل بالإنسان ما يوجب حزنه أو خوفه، فليكن ذلك باعتدال، ولوقت قصير؛ لأن استمرار الأحزان، دوام القلق، وكثرة المخاوف تؤدي إلى الإصابة بالأمراض النفسية، فالحزن الدائم (الاكتئاب)، والخوف المبالغ فيه (القلق)، من أكثر الأمراض النفسية انتشارًا في العالم؛ يقول الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي: (القلق) من أكثر الأمراض شيوعًا في العالم بأجمعه، ويقول الدكتور محمد الصغير استشاري الطب النفسي: يعد (الاكتئاب) من أكثر الأمراض شيوعًا في العالم، ويقول الدكتور محمد عثمان نجاتي: تتفق جميع مدارس العلاج النفسي على أن القلق هو السبب الرئيسي في نشوء أعراض الأمراض النفسية، وتتفق هذه المدارس أيضًا على أن الهدف الرئيسي للعلاج النفسي هو التخلص من القلق، وبثُّ الشعور بالأمن في نفس الإنسان.




وحتى لا تتحول أحزان الإنسان ومخاوفه إلى أمراض نفسية تكدِّر عليه حياته، فهذه وصايا متنوعة أسأل الله الكريم أن ينفع بها كل خائف ومحزون، إنه قريب مجيب.

 

لا تستسلم للأوهام والخيالات:

لا تستسلم للأوهام، فهناك من يخاف من أشياء لا حقيقة له، ولا وجود لها؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: هناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز، فيظن أن هذا عدو يتهدَّده.




وهذا الخوف خوف مذموم؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: الخوف إن كان خوفًا وهميًّا، كالخوف الذي ليس له سبب أصلًا، أو له سبب ضعيف، فهذا مذموم، يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن، ولذا ينبغي مقاومة هذا الخوف؛ يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يطارد هذه الأوهام؛ لأنه لا حقيقية لها، وإذا لم يطاردها فإنها تُهلكه، وقال: يجب على المؤمن أن يطادره ما أمكن، لأن المؤمن قوي.




فإن لم يقاوم المسلم هذا الخوف، جلب له الأمراض والأزمات النفسية؛ يقول العلامة السعدي رحمه الله: فكم ملئت المستشفيات من مرضى الأوهام والخيالات الفاسدة، وكم أدت إلى الحمق والجنون، والمعافى من عافه الله، ووفَّقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب، الدافعة لقلقه.

 

ليكن رسول الله علية والسلام القدوة لك فيما يصيبك من أحزان:

المسلم لا يحزن حزنًا يؤدي به إلى الاعتراض على قضاء الله عز وجل وقدره، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال ابن المنير: من أُصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن، ولا يقع في المحظور، من اللطم والشق، والنوح، وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم بأن يجلس جلسة خفيفة بوقار، وسكينة، تظهر عليه مخايل الحزن.




وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مات ابنه إبراهيم: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)؛ [متفق عليه]، قال الإمام النووي رحمه الله: فيه جواز البكاء على المريض، والحزن، وأن ذلك لا يخالف الرضا بالقدر، بل هي رحمه جعلها الله في قلوب عباده، وإنما المذموم الندب، والنياحة، والويل والثبور، ونحو ذلك من القول بالباطل، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال ابن بطال وغيره: وهذا الحديث يفسر البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب، من غير سخط لأمر الله.

 

إن كنت أُذيت فحزنت فأبشر، فالعاقبة لك:

الإنسان إذا أوذي بالكلام أو بالأفعال، فسوف يحزن، وقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل سفهاء وكفار قريش، وحزن، وضاق صدره من ذلك؛ قال الله جل وعلا: ? وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدرُكَ بِما يَقولونَ ? [الحجر:97].

 

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: وإنا لنعلم يا محمد، أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض، وقال العلامة السعدي رحمه الله: ? وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدرُكَ بِما يَقولونَ ? لك من التكذيب والاستهزاء.

 

وعن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشدُّ من يوم أحد؟ فقال: (لقيتُ من قومك، وكان أشدَّ ما لقيتُ يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا بقرن الثعالب)؛ [الحديث متفق عليه].

قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (فلم أستفق إلا بقرن الثعالب)؛ أي: لم أوطن نفسي، وانتبه لحالي، وللموضع الذي أنا ذاهب إليه، وفيه إلا وأنا عند قرن الثعالب، لكثرة همي الذي كنتُ فيه.

 

وعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت في حادثة الإفك: قدمنا المدينة فاشتكيتُ حين قدمت شهرًا والناسُ يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعُر بشيءٍ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرفُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، حتى خرجتُ مع أم مِسطح، فعثرتُ في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلتُ لها: بئس ما قلتِ، أتسُبِّينَ رجلًا شهِد بدرًا؟ فقالت: أي هنتاه، ولم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضًا على مرضي، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحتُ أبكي، فبكيتُ يومي ذلك كله، وقد بكيتُ ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحلُ بنوم، حتى إني لأظُنُّ أن البكاء فالق كبدي؛ [متفق عليه]، لقد حزنت رضي الله عنها وبكت بسبب قول أهل الإفك فيها زورًا وبهتانًا، فأنزل الله عز وجل براءتها في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكانت تقول رضي الله عنها: ثم تحولت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننتُ أن ينزل في شأني وحيًا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري.

 

فمن أوذي بقول، أو فعل، أو اتُّهِم بباطل، فحزن، وتألَّم، فليبشر بكل خير، فالعاقبة ستكون له، طال الوقت، أو قصُر، المهم أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله، ولا يلبس عليه الشيطان أنه مضى زمن ولم يرَ فرجًا، فالفرج قريب، وكل ما هو آت فهو قريب.

 

لا تسترسل في الأحزان، فإن ذلك لن يرد ما فات:

الإنسان العاقل إذا فقد شيئًا عزيزًا عليه، فإنه يحزن عليه الحزن الطبيعي، بحيث لا يكون حزنه دائمًا مستمرًّا معه، فذلك لا يجلب له نفعًا، فالأحزان الدائمة على ما مضى لا ترد ما فائت، قال الله سبحانه وتعالى: ? وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? [آل عمران:139]، قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: ينهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن الحزن على ما مضى؛ لأن هذا في الحقيقة كما أنه خلاف الشرع، فهو خلاف العقل؛ لأن الحزن على ما فات لا يرد الفائت، لو تحزن ليلًا ونهارًا على ما مضى لن تغير شيئًا، الذي مضى وقع كما هو لن يتغير، ولهذا كان من الحزم ألا يحزن الإنسان على شيءٍ مضى، بل يقول: قدر الله، وما شاء فعل.

 

لست وحدك في معاناتك، فالكل مثلك فهوِّن على نفسك:

من نظر إلى أحوال الناس فسيجد أن الكلَّ يعاني، فهذا من فقر، وهذا من مرض، وهذا من دين، وهذا من فقد عزيز، وهذا من كساد تجارة، وهذا من عقوق أولاد، ونحو ذلك، فلست الوحيد في معاناتك؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعدٍ، ولينظر يمنةً فهل يرى إلا محنةً؟ ثم ليعطف يسرةً فهل يرى إلا حسرةٍ؟ وأنه لو فتش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلًى، إما بفوات محبوبٍ، أو حصول مكروهٍ، وأن شرور الدنيا أحلامُ نوم، أو كظلِّ زائلٍ، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا خيرةً إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرورٍ إلا خبأت له يوم شرورٍ؛ قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيت فرحًا، إلا مُلئ ترحًا.

 

الخوف من الله عز وجل، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، يُذهب الخوف:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الله تعالى حسب من توكل عليه، وكافٍ من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ الخائف، ويجير المستجير، وهو نعم المولى، ونعم النصير، فمن تولاه واستنصر به، وتوكل عليه، وانقطع بكُليَّته إليه، تولاه وحفَّه وحرسه وصانه، ومن خافه واتَّقاه، أمَّنه من كل ما يخافُ ويحذرُ، ومن لم يخفهُ أخافه من كل شيء، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله؛ قال تعالى: ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُون ? [النحل:98-100]، وقال: ? إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [آل عمران:175]؛ أي: يخوِّفكم بأوليائه، ويعظِّمهم في صدوركم، فلا تخافوهم، وأفردوني بالمخافة، أكفِكُم إياهم.

 

وقال رحمه الله: إذا جرد العبدُ التوحيد، فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى، بل يفرد الله بالمخافة، فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخاف من كل شيء.

 

وقال الله سبحانه وتعالى: ? إِنَّمَاذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [ آل عمران:175]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: كلما قوِي الإيمان بالله قوي الخوف منه، وضعف الخوف من أولياء الشيطان؛ لقوله: ? فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ?.

 

وقال العلامة السعدي رحمه الله: ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمِع في فضله، اندَفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يُمكن التعبير عنه.

 

لا تفكر كثيرًا في المستقبل:

التفكير الكثير المبالغ فيه في المستقبل، يؤدي بالبعض إلى الخوف منه، وهو شعور بخوف من احتمال وقوع شيء غامض مكروه في المستقبل، من مرض أو فقر، أو مصائب أو كوارث، ونحو ذلك، يقول الأستاذ الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغير: التفكير المستمر في كيفية حمل أثقال المستقبل ومسؤولياته، داء نفسي يدخل إلى النفس من خلال وساس الشيطان للإنسان المسلم بعظم الأمور التي تحدث حوله وإن كانت صغيرة.




ويعالج الخوف من المستقبل بقوة الإيمان، يقول الطبيب النفسي الدكتور محمد عبدالفتاح المهدي: إن المؤمن بالله إيمانًا صادقًا لا يخاف من شيء في هذه الحياة الدنيا، فهو يعلم أنه لا يمكن أن يصيبه شر أو أذى إلا بمشيئة الله تعالى، والمؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من مصائب الدهر، وغوائل الأيام، إنه لا يخاف أن تصيبه الأمراض، أو تقع له الحوادث، أو تحل به الكوارث، فهو يؤمن بالقضاء والقدر، ويعلم حق العلم أن ما يحل بالناس من سراء، أو ضراء، إنما هو ابتلاء من الله تعالى، ليعلم من سيحمده على ما يناله من سراء، ومن سيصبر على ما يناله من ضراء، ولذلك فهو لا يجزع إذا أصابه شر، بل يتحمل ويصبر، ويحمد الله تعالى، ويدعوه أن يرفع عنه الشر والبلاء.

 

اقرأ سورة يوسف لترى أن المحنة قد تتحول إلى منحة:

المحنة قد تتحول إلى منحة، ومن قرأ سورة يوسف بتدبر ظهر له ذلك، قال العلامة السعدي رحمه الله: هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها: ? نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ ? [يوسف: 3]، وقال في آخرها: ? قَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ ? [يوسف:111]، هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها، وأبينها، لِما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنةٍ، ومن ذل إلى عز، ومن رقٍّ إلى ملك، ومن فرقة وشتات، إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن ضيق إلى سعة، فتبارك من قصها فأحسَنها ووضَّحها وبيَّنها، وقال رحمه الله: ومن فوائد قصة يوسف: أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، فإنه لَما طال الحزن على يعقوب، واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب، ومسهم الضر، أذِن الله حينئذ بالفرج، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارًا، فتم بذلك الأجر، وحصل السرور.

 

احذر توهم المرض:

احذر توهُّم وجود أمراض فيك، وليست فيك، يقول الدكتور محمد بن عبدالله الصغير استشاري الطب النفسي: توهم المرض، هو اضطراب نفسي، يتعلق بمحتوى التفكير؛ حيث يظل ذهن الشخص مشغولًا بوظائف جسمه، وصحة بدنه، ويتصور أن لديه مرضًا خطيرًا خفيًّا يدب في أعضائه، أو بعضها، ويهدده بالموت، فتراه يفسر أي عرض بسيط (كالخفقان أو بثور في الجلد...) على أنه دلالة على مرض خطير، فيبادر بالذهاب إلى الأطباء، باحثًا عن نتيجة تقنعه بأنه مريض فعلًا، وقد لا يقتنع بكثير من آراء الأطباء، ولا نتائج الفحوصات.

 

من كان الله جل جلاله معه، فالحزن والخوف منه بعيد:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قال تعالى حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه: ? لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ? [التوبة: 40]، فدل على أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له، فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟ قال تعالى: ? قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ? [يونس: 58].




وقال الله عز وجل: ? قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ? [طه: 45، 46]؛ قال الإمام الشوكانيُّ رحمه الله: فمَن كان الله معه، لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال، وقال العلامة العثيمين رحمه الله: هذه المعية توجب لمَن آمَنَ بها كمالَ الثبات والقوَّة، وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: مَن كان الله معه، فالخوف منه بعيد، وكذلك الأذى بعيد عنه بمراحل.




ومن كان الله عز وجل معه فلا غالب له، ومن لا يُغلَب فإنَّه لا يحزن؛ قال الله عز وجل: ? إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ? [التوبة: 40]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: مَن كان الله معه، فلا غالب له، وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: مَن كان الله معه فلن يُغلَب، ومَن لا يغلب فيحقُّ له ألا يحزن، وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: مَن كان الله معه فلن يُغلَب، ومَن لا يُغلَب لا يحقُّ له أن يحزن.




والله جل جلاله مع المؤمنين؛ قال سبحانه وتعالى: ? إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ? [الأنفال: 19]، والمراد بذلك أهل الإيمان الكامل.

 

ومع الصابرين، قال الله عز وجل: ? وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [البقرة: 249]، والصبر يشمل الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة.




ومع المتقين، قال الله: ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ? [البقرة: 194].




ومع المحسنين، قال الله: ? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ? [النحل: 128]، جاهد نفسك وكن من المؤمنين المتقين الصابرين المحسنين، يذهب عنك الخوف والحزن.

 

احرص على العبادات التي تدفع عنك الخوف والحزن:

ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم: القرآن العظيم عبادات من قام بها دفعت عنه الحزن والخوف، فجاهد نفسك في القيام بها، ليذهب عنك الخوف والحزن، ومنها:

 

اتباع هدى الله:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قوله تعالى:? قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة:38]، فالله سبحانه جعل اتباع هداه وعهده الذي عهده إلى آدم سببًا ومقتضيًا لعدم الخوف والحزن، وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط، مُنتفٍ بانتفائه، ونفي الخوف والحزن عن متبع الهدى نفي لجميع أنواع الشرور، ومتابعة هدى الله التي رتَّب عليها هذه الأمور هي: تصديق خبره من غير اعتراض شبهةٍ تقدحُ في تصديقه.

 

وامتثال أمره من غير اعتراض شهوةٍ تمنع امتثاله.

 

وعلى هذين الأصلين مدار الإيمان، وهما: تصديق الخبر، وطاعة الأمر.

 

ويتبعهما أمران آخران، وهما: نفي شبهات الباطل الواردة عليه، المانعة من كمال التصديق، وألا يخمش بها وجه تصديقه.

 

ودفع شهوات الغي الواردة عليه، المانعة من كمال الامتثال.

 

فهنا أربعة أمور: أحدها: تصديق الخبر.

الثاني: بذل الاجتهاد في ردِّ الشبهات التي تُوحيها شياطين الجن والإنس في معارضته.

الثالث: طاعة الأمر.

الرابع: مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحولُ بين العبد وبين كمال الطاعة.

 

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله تعالى: ? فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ? [البقرة: 38]؛ أي: أخذ به تصديقًا بأخباره، وامتثالًا لأحكامه، ومن فوائد الآية: أن من اتبع هدى الله فإنه آمن من بين يديه، ومن خلفه؛ لقوله تعالى: ? فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة: 38].




وقال العلامة السعدي رحمه الله: فمن اتبع هداه، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء. فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب.

 

الإخلاص والمتابعة:

قال الله عز وجل: ? بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة: 112]؛ قال ابن عثيمين: من فوائد الآية: انتفاء الخوف والحزن لمن تعبد الله سبحانه وتعالى بهذين الوصفين، وهما الإخلاص والمتابعة.

 

وقال الله جل جلاله: ? فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [الأنعام: 48]، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: (فلا خوف عليهم) بوجه من الوجوه، (ولا هم يحزنون) بحال من الأحوال، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله: ? وَأَصْلَحَ ?؛ أي: أصلح العمل وإصلاح العمل لا يتم إلا بأمرين الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جمع بين هذين الوصفين الإيمان والإصلاح، فليبشر أنه لا خوف عليه ولا حزن.

 

الإيمان والعمل الصالح:

قال عز وجل: ? مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة: 62]، فالإيمان والعمل الصالح يجعل الإنسان يعيش في أمن، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الإيمان والعمل الصالح يطردُ الخوف، ويطردُ الحزن في الدنيا والآخرة، ولهذا كان أشرف الناس صدرًا، وأنعمهم بالًا وأشدهم طمأنينة؛ أي: أشدهم طمأنينة في القلب هم المؤمنون العاملون عملًا صالحًا، ومن العمل الصالح الطارد للهموم والغموم: الإحسان إلى الناس بالصدقات وتفريج الكروب؛قال عز وجل: ? الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة: 274]، وقال الله عز وجل: ? الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [البقرة: 262]، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وقوله: ? ولا خوف عليهم ? ظاهره نفي الخوف عنهم في الدارين لِما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول، وكذلك ? ولا هم يحزنون ? يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم.

 

وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الإنفاق يكون سببًا لشرح الصدر، وطرد الهم والغم؛ لقوله تعالى: ? وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ?، وهذا أمر مجرَّب مشاهد أن الإنسان إذا أنفق يبتغي بها وجه الله، انشرَح صدره، وسرت نفسه، واطمأن قلبه.

 

الاستقامة على الطاعة والأعمال الصالحة:

قال سبحانه وتعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ? [الأحقاف: 13].

 

قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: ذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية: ثم استقاموا بالطاعات والأعمال الصالحات.

 

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: ? ولا هم يحزنون ?، المعنى: أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم، ولا يحزنون على فوات محبوب، وأن ذلك مستمر دائم.

 

تقوى الله بفعل الأوامر واجتناب النواهي:

قال عز وجل: ? فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ?[الأعراف: 35]، وقال الله عز وجل: ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ? [يونس: 62، 63]؛ قال الإمام الشوكاني رحمه الله: أي: يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه، والمراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبدًا كما يخاف غيرهم؛ لأنهم قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب؛ لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره، فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة.

 

وختامًا فما أحسن الحزن إذا فاتت العبد طاعة الله، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألهُ الحُملان لهم؛ إذ هم معه في جيش العسرة، وهي: غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: (والله لا أحملكم على شيء)، ووافَقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعتُ حزينًا من منع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عليَّ؛ [أخرجه البخاري].




قال الله عز وجل: ? وَلا عَلَى الَّذينَ إِذا ما أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لا أَجِدُ ما أَحمِلُكُم عَلَيهِ تَوَلَّوا وَأَعيُنُهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدوا ما يُنفِقونَ ? [التوبة:92].

 

قال الإمام القاسمي رحمه الله: دلت الآية على جواز البكاء وإظهار الحزن على فوات الطاعة، وإن كان معذورًا.




وقال الشيخ محمد بن الطاهر بن عاشور رحمه الله: الآية نزلت في نفر من الأنصار لُقِّبوا بالبكَّائين؛ لأنهم بكوا لَمَّا لم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان حزنًا على حرمانهم من الجهاد، وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: ? تَوَلَّوا وَأَعيُنُهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ ?؛ أي: انصرفوا من مجلسك وهم في حال بكاء شديد، هاجه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلئ دمعًا، فيتدفق فائضًا من جوانبها تدفقًا، حتى كأنها ذابت فصارت دمعًا، فسالت همعًا، ? حَزَنًا ? منهم وأسفًا، ? أَلَّا يَجِدوا ما يُنفِقونَ ?؛ أي على عدم وجدانهم عندك، ولا عندهم ما ينفقون، ولا ما يركبون في خروجهم معك جهادًا في سبيل الله وابتغاء مرضاته.

 

وما أجمل أن نحول خوفنا من الدنيا إلى الخوف من عدم قبول أعمالنا، قال الله سبحانه وتعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُشْفِقُونَ *وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ*وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ *أُولَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ? [المؤمنون:57-61]، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله: ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ?، هو الذي يسرق، ويزني، ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يا بنة الصديق، ولكنهم الذي يصلون، ويصومون، ويتصدقون، وهو يخافون ألا يتقبل منهم)؛ [أخرجه الترمذي].

 

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله، خائفون منه، وجلون من مكره بهم، كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءةً وأمنًا.

 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ? [الحجرات: 2] إلى قوله: ? وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ? [الحجرات: 2]، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنتُ أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزينًا، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي، وأجهر بالقول حبط عملي، وأنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال: (لا بل هو من أهل الجنة)؛ [متفق عليه] وفي رواية: (أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتُقتل شهيدًا، وتدخل الجنة)، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا دليل على أن الخوف قد تكون عاقبته خيرًا، فهذا الرجل خاف أن يكون من أهل النار؛ لأنه كان جهوري الصوت، فخاف أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

 

اللهم فرِّج كروب المحزونين من المسلمين، ونفِّس همومهم، وأذهِب أحزانهم، واجعل ما أصابهم كفارةً لذنوبهم، ورفعةً لدرجاتهم، واجعلنا ممن لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، في الدنيا والآخرة.


"
شارك المقالة:
41 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook