لا فائدة

الكاتب: المدير -
لا فائدة
"لا فائدة

 

 

كان معروفًا بنشاطه وحركته وسفرياته الكثيرة، فكان حديثه لا يُمل؛ لأنه يمزج بين الخبرة والحكمة واللطف والبسمة، شكله ليس بالوسيم، لكنه مألوف، وجرمه ليس بالكبير، لكنه ليس بالصغير، منزله لا ينقطع من كثرة الضيوف من داخل البلاد وخارجها؛ من المثقفين، والمفكرين، والدعاة، والمصلحين.

 

أذكر أنني حضرت مجلسه يومًا – ليس بالكبير جدًّا لكن أثاثه جميل وإن لم يكن فاخرًا - وكان ضمن الحضور عدد من الشباب، بالإضافة إلى الضيوف من أنحاء متفرقة من العالم، وبعد حديث متقطع عن الواقع:

• اسمحوا لي؛ قال أحد الشباب وكان مشهورًا بالصراحة والجرأة.


• تفضل، كلنا نسمع؛ قال صاحب المجلس.


• في كل مرةٍ يدور الحديث عن الواقع، أسمع رسائل سلبية، ووصفًا للواقع المرير، لكني لا أرى أنه يتبعه عمل، بل على العكس ألاحظ الدعوة إلى القَبول والسكون، ولا تغير إلا إلى الركون، فلا فائدة من تلك الحوارات، بل ربما العكس، آسف، لكن هذا ما أشعر به، وأظن أن الشباب - والتفت إليهم - يوافقونني على ذلك.


• ومما أذكر أني قرأته، قول بعض السلف: إذا كان الكلام لا يؤدي إلى العمل، فتركه أولى، نحن نتأثر ونشتعل ونتحمس، ثم بلا عمل، أو لا نستطيع تحويل كلامكم إلى أفعال؛ قالها شابٌّ آخر.


• صمت الجميع برهة، وكأنهم صُدِموا من تلك العبارات، ثم بدأ صاحبنا الحديث.


• ما تذكرونه ربما يكون صحيحًا من وجهة نظركم، لكنكم لم تتعرفوا على الجانب الإيجابي في ذلك الحديث.


• وهل فيه غير التنمر والتسخط وحرقة الأعصاب، ثم تضيق النفوس؟


• نعم، فيه الكثير، منها أنه فرصة لتفريغ الهموم وبثها بين المحبين؛ فمشاطرة الآهات مع المقربين تسمح بتسلية النفس وتهدئتها، فمجرد الكلام يخفف الآلام، ثم أليس فيها جانب من الإنكار باللسان بحسب المستطاع؟ أتُرانا نتقاعس عن ذلك، ونحن قادرون عليه، ولو في نطاق ضيق؟ وأمر آخر: التذكير بالمنكرات يعني استمرار الإنكار القلبي وعدم الاستسلام لها.


• مسعود (متخصص في علم النفس): روح الشباب جميلة، وأشكركم على ذلك، لي إضافة بسيطة؛ وهي أن سكوت الإنسان عن الخطأ وصمته عنه - ولو لم يعمل - يؤدي غالبًا إلى قَبوله، ومن ثَمَّ نسيان أنه خطأ، وإن استمر، فقد يصبح الخطأ صوابًا، ويستقر في النفس، وقد يصل إلى مرحلة الدفاع عنه باعتباره صحيحًا.


• سعدون (من إحدى الدول العربية): ولنا تجربة في بلدنا، لقد صمتنا في البداية؛ كوننا لا نستطيع العمل، ومع الوقت لم يسمع أبناؤنا عن المنكر، وظنوا أنه صحيح ومارسوه دون شعورٍ بأي ذنب، حتى أصبح من العسير علينا حاليًّا الإنكار عليهم، فكانوا دائمًا يقولون: أتيتم بدينٍ جديد، أين أنتم من زمنٍ بعيد؟ وغيرها، وأخشى أن ينتقل ذلك الفيروس - أقصد فيروس الصمت - إلى البقية؛ فيستعصي بعدها اقتلاع المنكرات وتصحيح الأخطاء.


• عبدالله (من ألبانيا إحدى دول أوربا الشرقية): جميل الحماس، وأجمل منه الحوار، سأوري لكم قصة حدثت معي شخصيًّا، بلدنا أغلبها مسلمون – والحمد لله - أنا من قرية ولست من المدن، دخلت يومًا إلى العاصمة لتناول الغداء، جلست على الطاولة وطلبت المينيو (قائمة الطعام)، أتت النادلة - لا تسأل عن لبسها - ما هذه القائمة؟ سألتها، فأجابت: وماذا بها؟ ألستِ مسلمة، قالت: بلى، قلت: هذه القائمة فيها لحم خنزير والمشروبات فيها خمر، قالت: وماذا في ذلك؟ قلت: إنه حرام، قالت باستغراب ودهشة: صحيح، والله لم أكن أعلم، وكيف لي أن أعلم؟ طبعًا أنا لم أحدثها عن لباسها (الحجاب)، فهي لا تعلم، وبقي العلم محصورًا فيمن كانوا يتحدثون به، شاهدي من هذه القصة أنه قد يصل الأمر بالسكوت إلى تعاظم النسيان، واندثار الأحكام، حتى ما كان معلومًا بالضرورة، يكون منسيًّا مقبورًا.


• سميث (من أوربا): أغبطكم على حرقة الشباب وحرصهم، بارك الله فيهم، الأفعال بنت الأفكار، فالإنسان لا يعمل إلا بعد تفكير، وكلما كان التفكير أعمق وأشمل، كانت احتمالية توليد الأفكار أكبر، والعكس صحيح، وأهم مصادر التفكير السليم هو الحرقة والدافعية، وهذه إنما تتولد بكثرة الحوار والكلام عن الموضوع، والسعي في الوصول إلى نتائج عملية، وغالب ما نراه من ابتكارات هو نتيجة جهد فكري سابق ربما استغرق عشرات السنوات، وتناقلته الأجيال حتى وصل إلينا بالشكل الحالي، وربما لا يعلم الناس مقدار ذلك الجهد الذهني ولا المعملي، فمثلًا: أديسون نجح في اختراع المصباح بعد مئات التجارب في معمله؛ حيث لم يكن يعلم عنه إلا القليل، لكنه وصل في النهاية، ومقصدي من كلامي أن كثرة الحوار والكلام في الموضوع يزيد من فرصة إنتاج أفكار عملية قابلة للتطبيق، ومتى ما عطلنا الكلام والحوار، نكن قد حفرنا قبر الأفكار، ومن ثَمَّ الأعمال.


• طارق (من ماليزيا): أنا سعيد جدًّا بتواجدي بينكم، فهي المرة الأولى التي أحضر هذا المجلس، وسعيد أيضًا بسؤال الشباب، ولعل أدلي برأيي وإن كان - يلتفت إلى جهة الشباب - كلامًا، نحن أمام الأخطاء بين خيارين: الحديث عنها أو السكوت عليها، فماذا تختارون يا شباب؟


• الكلام إذا كان يتبعه عمل لتصحيح الخطأ.


• جميل، وإلى أن نصل إلى طريقةٍ مناسبة للتصحيح، ماذا نفعل؟


• لا أدري.


• أيضًا نحن هنا بين خيارين: إما الصمت مع استمرار الأخطاء، أو أن نتحدث ونجتهد ونحفر الذهن من أجل الوصول إلى طريقة مناسبة للتصحيح، فهل هناك احتمالٌ ثالث؟


• لا أظن، لكن الفترة طالت، فإلى متى نتحدث دون عمل؟


• وهل وصلتم إلى طريقة مناسبة للتصحيح ولم تعملوها؟


• لا.


• إذًا، أنتم ما تزالون تبحثون؟


• نعم.


• والباحث لا بد أن يفكر ويتحدث بما يريد عمله بالتشاور مع محبيه ومؤيديه، وقد ذكر أخي سميث أن أديسون لم يتوقف عن التفكير ولا الحديث مع فريقه، حتى وصل ثم عمل، ماذا لو توقف أديسون عن التفكير والحديث عن المصباح، أكان سيصل؟


• طبعا لا، لكنا تعبنا نفسيًّا، نرى أننا نسير إلى الهاوية ولا نستطيع عمل شيء.


• سعيد (مدير مدرسة): وأنتم مأجورون على ذلك التعب، بل هو من الابتلاء الرباني والاختبار الإلهي، فأجوركم تتضاعف مع حرقتكم وسعيكم بالتفكير والمناقشة، فلا تحرموا أنفسكم ذلك الفضل الكبير، ولا تحاولوا إطفاء تلك الشعلة المتقدة في قلوبكم؛ فأنتم على خيرٍ قليل فاعله، فاشكروا الله يزدكم، ولا تستمعوا لمن يقول لكم: لا فائدة، منذ سنوات وأنتم تتحدثون، ماذا قدمتم؟ تلك رسائل على لسان شيطان تلبسها بعض المحبين دون شعور، وربما لعجزهم حتى عن التفكير والحديث، أرادوكم أن تشاركوهم تقصيرهم، فالله الله في قلوبكم.


• صاحبنا: لعل سكوتكم وصمتكم هو ما يسعى إليه الأعداء من الجن والإنس، فمقصدهم تدميركم، وتحويل طاقتكم نحو الشهوات والملهيات دون اكتراثٍ بما يحدث، وبمعنى آخر: يريدون تلبد مشاعركم، بل وموتها بشكل بطيء؛ بحجة: لا فائدة، والآن لن تخرجوا - أيها الشباب - من هنا إلا بفائدة، فحياكم الله تفضلوا جميعًا - وبابتسامته الجميلة - أظن أن العشاء فيه فائدة، ويلتفت إلى الشباب خاصة: هيا.


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook