لقاء مع الملك

الكاتب: المدير -
لقاء مع الملك
"لقاء مع الملك
أما آن يا صفاء أن تُدركي؟

 

كان يومًا شاقًّا جدًّا، عملت صفاء كثيرًا في بيتها كان يحتاج إلى تنظيف كثير، وما أن انتهت جلست تلتقط أنفاسها، فإذا بثوبها قد أصابه أدرانٌ كثيرة وكذلك بدنها، انتفضت صفاء لتنظِّف ما علِق بها من أدران، لكنها تذكَّرت قلبَها وقد علِق به أيضًا كثيرٌ من الأدران، ولكنها ليست من آثار التنظيف، وإنما من آثار الذنوب والتقصير، نسِيت ثوبَها وبدنها، وجثَت على رُكبتيها، ويحكِ يا صفاء أتنتفضين لدنيا فانية وتغفلين عن قلب علاه الرانُ؟ أنسيتِ ذلك القلب الخصب حين كنتِ ترويه بلذة الذكر؟ أما تذكرين حين أثقلتكِ الهموم والأحزان، وردَّد قلبُك ولسانك: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؟ فإذا بالسكينة قد غشيتكِ، رجتْ ربها أن يَمُنَّ عليها بغفران ذنبها، فتذكَّرت حديث رسولها صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا؛ أخرجه البخاري ومسلم.

 

هُرعت صفاء إلى سجادتها ترجو مَحوَ خطاياها وكلها رجاءٌ أن يقبل الله توبتها، سكبت الدموع عسى الله أن يطهرها، تضرَّعت إلى ربها أن يقبلها، اعترفَت بذنبها وبتقصيرها، وكلها شوق إلى خالقها، غابت عن الدنيا بل تناستها، وأنِس قلبها بوصل مالكها، رددتْ: الله أكبر من قلبها، الله أكبر من مشاغلها، الله أكبر مما يُحزنها.

 

ولكن يا تُرى الله يقبلها؟ وكيف لا وقد قال عز وجل: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأ ذَكَرْتُهُ في مَلَأ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً؛ أخرجه البخاري.

 

ولكن ماذا عني وعنك، هل ما زالت الأدران تغشانا؟ هل ما زالت قلوبنا تئنُّ أَلَمًا مما أرداها؟

ولكن يا لجرأة عبد فقير محتاج يريد النجاة، ويخشى الهلاك، ومع كل أدرانه تلك يقف بين يدي الملك لاهيًا منفضًّا، تتراكم عليه المشاغل، فتَسرق منه صلاته، يفكر ويخطط في أمور دنياه، ونسِي المسكين أنه بين يدي مولاه، فالله يعلم حاجته ويَقدر أن يقضيها له، لكنه لو صدق لانشغل بالكافي، وانفضَّ عمن سواه ولكفاه الملك أمر دينه ودنياه.

 

فهل هذه صلاة تليق بالملك لا والله، فلو وقف أحدنا أمام ملك من ملوك الدنيا له عنده حاجة، لارتعدَت فرائسُه، ولله المثل الأعلى، فكيف نقف بين يديه ولا نستحيي منه؟ كيف نطلب منه مَحو الخطايا ونحن منشغلون عنه؟

 

الله يأتينا ونحن نتولى، فيا لحسرة قلب فاته هذا الفضل، ويا لأسف على صلاة انقضت لم ينعَم فيها بالقرب؛

قال ابن القيم (بتصرف): فإن العبد يقف بين يدي الله تعالى موقفين عظيمين: الموقف الأول في الصلاة، والموقف الثاني يوم لقاء الله، فإن أحسن العبد الموقف الأول، سهُل عليه الموقف الثاني، ومن استهان بالموقف الأول، صعُب عليه الموقف الثاني.

 

فها هو الموقف الأول ينادي: حيَّ على الفلاح، حي على الفلاح.

 

فأقبِل يا قلبي ويا من تقرأ رسالتي على الفلاح، أقبِل إلى ربٍّ ودود يريد لك اليسر، ويريد لك الخير، يريد أن يتوب عليك، ويريد أن يخفِّف عنك، ألا تشتاق أن تذكره: ? وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ? [طه: 14]، ألا تطمع أن يذكرك: ? فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ? [البقرة: 152].

 

أقبِل على الصلاة، فهي صلة القلب بالله، فيها يأخذ العبد فاصلًا من الحياة، يَرقى بروحه فينعم بقُرب مولاه، يتصل ليأنَس ويحيا، يسجد ليقترب، يدعو فيسمع له، ثم بعدها يعود لدنياه، وقد تطهَّرت رُوحه وارتقت، وأنا وأنت هلا أخذنا فاصلَنا! هلا ارتقينا برُوحنا لننعم بقرب خالقنا! هلا سجدنا واقتربنا!


"
شارك المقالة:
24 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook