لم؟ وكيف؟

الكاتب: المدير -
لم؟ وكيف؟
"لم؟ وكيف؟




قال بعض السلف: (ما من فعلة وإن دقّت إلا وينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أي: لم فعلت؟ وكيف فعلت؟).

لم؟ وكيف؟




أما قولهم في السؤال الأول: لم؟ فهو سؤال عن الإخلاص؛ ولذلك قالوا: لم فعلت؟.

وطريق الخلاص - كما هو معلوم - إنما يكون بتحقيق الإخلاص، وتصفية الباطن من شوائب الرياء والتسميع، وقد جاء في الحديث: ((من راءى راءى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به)).

 

وأما قولهم في السؤال الثاني: وكيف؟ فهو سؤال عن المتابعة؛ ولذلك قالوا: وكيف فعلت؟.

 

وطريق الخلاص من السؤال الثاني - كما هو معلوم - إنما يكون بتحقيق المتابعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

فالسؤالان هما عن شرطَيْ تحقُّق العبادة وتحقيقها؛ لأن كل عبادة لا تصح إلا بهذين الشرطين، ومقتضى القسمة العقلية أنها على أربع صور أو حالات:

الأولى: إما أن يوجدا معًا: الإخلاص والمتابعة، وهذا هو حال أولياء الله - عز وجل - وعباده الصادقين.

والثانية: أن ينتفيا معًا، فلا إخلاص ولا متابعة، وهذا في الحقيقة هو كحال الكفار.

والثالثة: أن يوجد الإخلاص وتنتفي المتابعة.

والرابعة: أن توجد المتابعة في الظاهر، ولا يوجد إخلاص، وهذا هو حال المنافقين.

 

إذًا؛ فالأمر خطير؛ ولذلك ينبغي علينا - جميعًا - أن نعتني بهذين الأمرين معًا؛ فكل عمل يصدر منا على وجه العبادة، لا بد أن يسأل كل واحد منا نفسه:

هل تحقق فيه الإخلاص؟

وهل فعله وَفْقَ ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

 

ذلك أن الله - عز وجل - لا يقبل منا عملاً عملناه إلا بهما، فطريق التَّخَلُّصِ من السؤال الأول (لِمَ؟) بتجريد الإخلاص لله عز وجل، وطريق التَّخَلُّصِ من السؤال الثاني بتحقيق المتابعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما سيأتي من كلام ابن القيم.

 

وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الدين، إن لم تكن هي أعظم قواعد الدين وأصوله على الإطلاق، وكيف لا تكون كذلك؟! وهي - كما يقول بعض أهل العلم - قطب رحا الشريعة الإسلامية، وعليها يدور فَلَكُ الرسالة؛ ولذلك كانت محطَّ السؤال يوم القيامة، والله المستعان.

 

وهذه القاعدة هي التي يشير إليها شيخ الإسلام في كتبه دومًا، كمنهاج السنة النبوية (2 /448) مثلاً، وكذا غيره من المحقِّقين بقولهم: إن العبادات مبناها على أصلين:

أحدهما: ألا يُعبَدَ إلا اللهُ وحدَه، لا نعبد من دونه شيئًا: لا ملَكًا، ولا نبيًّا، ولا صالحًا، ولا شيئًا من المخلوقات.

 

والثاني: أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله، لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله، وانظر: ما كنا ذكرناه في مقال لنا بعنوان: حسن العبادة، أو العبادة الحسنة.

 

إذًا؛ فكل تعبُّد قوليٍّ أو فعلي تخلَّف عنه شرط الإخلاص، فإنه غير مقبول؛ لأنه شرك، وكل شرك فهو باطل ومردود، وغير مقبول من صاحبه، أيًّا كان.

 

وكذا كل تعبد قولي أو فعلي تخلف عنه شرط المتابعة، فإنه غير مقبول؛ لأنه محدَث في الدين، وكل إحداث في الدين فهو رد، وغير مقبول من صاحبه أيًّا كان.

 

ومن هنا نعلم أن الإخلاص بلا متابعة لا يفيد، والمتابعة بلا إخلاص لا تفيد، فلا بد من الإخلاص والمتابعة في كل عمل معًا.

 

وأختم بكلام جميل - متعلق بما نحن بصدده - تقريرًا وتأكيدًا، لابن القيم في كتابه الماتع والنفيس: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1 /8)، حيث يقول - رحمه الله - بعد أن ساق الأثر السابق معلقًا عليه: فالأول: سؤال عن علة الفعل، وباعثه، وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمِّهم، أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل؟ أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودُّد والتقرُّب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه؟

 

ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك؟ أم فعلته لحظِّك وهواك؟

والثاني: سؤال عن متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك التعبد؛ أي: هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي؟ أم كان عملًا لم أشرعه ولم أَرْضَه؟

 

فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: عن المتابعة؛ فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما.

فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع، فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة.

 

وكان - رحمه الله - قد ذكر كلامًا قبل هذا علق به على قول الله - عز وجل -: ? يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? [الشعراء: 88، 89]، وأنقله لأهميته، فقد قال: وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلِم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله، في خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق.

 

وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده؛ فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى؛ إرادة، ومحبة، وتوكلاً، وإنابة، وإخباتًا وخشية، ورجاءً، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال، من أقوال القلب: وهي العقائد، وأقوال اللسان: وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب: وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم في ذلك كله دِقِّه وجِلِّه: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل؛ كما قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ? [الحجرات: 1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر.


"
شارك المقالة:
270 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook