ما يجب أن يعرفه الجميع!

الكاتب: المدير -
ما يجب أن يعرفه الجميع!
"ما يجب أن يعرفه الجميع!




في طوق رجال الحكم أن يفرضوا القوانين على الناس، وفي استطاعة الجند أن يحملوا الناس على هذه القوانين حملاً، وفي مقدرة زعماء الأحياء وشباب العصيِّ، أن يمنعوا حفلة أو يقيموا مظاهرة، ولكن أمراً واحداً لا تستطيعه الحكومة ولا يقدر عليه الجند ولا يملكه فتيان العصي، هو السيطرة على أفكار الناس وعقولهم، ذلك الذي لا يقدر عليه إلا فئة قليلة من أبناء الوطن، خلقهم الله ليوجهوا أفكار الناس، ويتحكموا بعقولهم، أولئك هم رجال الفكر وحملة الأفلام، وعلينا (نحن الكتاب) واجب النهوض بهذا العبء، وتأدية هذه الأمانة....

 

إننا نرى الناس يتخبطون في عمياء جونة، لا يدرون أي طريق يسلكون ليصلوا إلى الغاية التي يريدونها، ففريق يؤمنون بمبدأ الوطنيات، هذه الوطنيات الضيقة المحدودة، التي لا تتجاوز سورية مثلاً بحدودها السياسية، وفريق يعتقدون بالجامعة العربية ويسعون لها سعيها، وفريق ظلت عقولهم وخفت أحلامهم، واتبعوا من المبادئ ما لا يستقيم في عقل، ولا يؤدي إلى مصلحة، وفريق عرفوا أن الحق فيما جاء به الإسلام، وأن الجامعة الصحيحة هي الجامعة الإسلامية، والمبدأ الصحيح مبدأ الإسلام؛ واشتغل كل فريق برفيقه فألقي بأسنا بيننا، وانقلبت قوتنا وبالاً علينا، وأصبح من الواجب على رجال الفكر، وحملة الأقلام أن يتقدموا لينيروا للناس الطريق، وأن يثيروا هذه المسألة، مسألة المبدأ الذي تصدر عنه نهضتنا، والأساس الذي تبنى عليه حياتنا السياسية الاجتماعية.

 

1- يقول القوميون ((إن المبدأ الديني مبدأ قديم، ويجب أن نتحرر عن المبادئ القديمة))!

وهذا صحيح ولكن ليس كل قديم باطلاً، لأن العقل قديم، بل إن العقل أقدم من الشرع والوحي، فإذا صح ترك الشرع لأنه قديم، وجب ترك العقل لأنه أقدم منه، وإذن تصبح الدنيا كلها (مستشفى مجانين)! أفليس رجوع إخواننا القوميين إلى العقل، أهون من إلقاء الناس كلهم في هاوية الجنون (ليستوي الماء والخشبة)؟

 

2- يقولون ((إن من المعروف اليوم في العالم المتمدن أن الدين لا يصح أن يتخذ أساساً في الحياة السياسية والاجتماعية)! وهذا صحيح، لكن الذين قالوا بهذا المبدأ ودعوا إلى فصل الدين عن السياسة، عنوا الدين المسيحي والأديان الأخرى التي لا تتجاوز الكنائس والمعابد، والإسلام ليس ديناً بالمعنى الذي يعرف في أوربة، ويأخذه شباننا تقليداً بلا فهم ولا علم، ولكن الإسلام (دين) يصل الإنسان بربه، و(شرع) ينظم علاقات الناس بعضهم ببعض، و(سياسية) تحدد صلات المسلمين بغيرهم من الأمم، و(أخلاق) ترفع الإنسان إلى أسمى غاية من سلم الكمال يمكن أن يصل إليها، فنحن نأخذ بالمبدأ الأوربي ونفصل الدين الإسلامي (الذي يبحث في الصلاة والصوم) عن السياسة، ولكن هل نفصل القانون الإسلامي عن الحياة القضائية، والسياسة الإسلامية عن الحياة السياسية؟

في الإسلام تشريع مدني وجزائي راقٍ عادل، إذا لم نأخذه على أنه مبدؤنا الديني، فلنأخذه على أقل تقدير على أنه شرع من الشرائع الموجودة كما نأخذ الشرع الإفرنسي أو السويسري، وكما يفعل العاقل حين يقتبس الحكمة والفائدة حيثما وجدها، ولو أن الأوربيين وجدوا في الدين المسيحي مثل هذا التشريع لما دعوا إلى فصل الدين عن السياسة، لأن دعوتهم تستحيل حينئذ إلى فصل الشيء عن نفسه، وهو عين المحال.

 

3- ويقولون: (إن في سورية مثلا أو غيرها من بلدان الشرق الإسلامي، كثيراً من الملل المختلفة، والنحل المتباينة، فإذا دعونا إلى اتخاذ الإسلام أساس الحياة فيها، طالب المسيحون واليهود والدروز والإسماعيليون وطالبت كل طائفة قلّت أو كثرت، بأن يعمل بدينها كما يعمل بالإسلام؛ فتضطرب الحياة ويعم الخلف والشقاق).

وهذه في الواقع، أقوى حجة للقوميين على دعاة المبدأ الإسلامي، ولكنها حجة باطلة من أساسها، ذلك أن العمل بالشرع الإسلامي لا يكون لأنه دين المسلمين، بل لأنه شرع عادل يفضل (كما يعرف من درس القانون المقارن) يفضل الشرائع الوضعية كلها؛ ويستطيع الدعاة إليه أن يقيموا الدلائل القاطعة على ذلك، فإذا كانت هذه الطوائف غير المسلمة من يهود ونصارى ودروز وإسماعيليين، تقنع بالقانون الفرنسي لأنه عادل، فكيف تأبى أن تقنع بالقانون الإسلامي وهو أعدل منه؟ هذا عين التعنت، وهذه هي العصبية الباطلة الذميمة!

ثم إن العمل بالشرع الإسلامي لا يدعو إلى تقتيل الطوائف المخالفة، وسلبها حقوقها كما يفهم الجهال، بل إن الإسلام يحفظ للمواطنين غير المسلمين (الذين يسمون في الاصطلاح الديني الذميين) يحفظ لهم حقوقهم كاملة، ويعطيهم المساواة مع المسلمين في الحقوق والواجبات، فأي حجة لهذه الطوائف في الفزع من الحكم الإسلامي ما دامت حقوقها محفوظة؟

 

4- وذلك ما يقولونه عن المدارس، يحتجون على نفي الدروس عنها، ونـزع التربية الإسلامية من نظامها، بأنها لأبناء الوطن كلهم لا للمسلمين وحدهم، وهو باطل أيضاً، لأن التربية الإسلامية تربية خلقية سامية، لا ضرر مطلقاً على عقائد النصارى واليهود إذا تربوا عليها، و ماذا يضر المسيحي لعمري إذا علم أن الكذب رذيلة، والسرقة منكر، والزنا فاحشة، والخمر أم الخبائث، أيكره المسيحيون أن يربى أولادهم على الصدق والأمانة والعفاف؟ هذه هي التربية الإسلامية! أما دروس الدين فباستطاعتهم ألا يحضروها، وإن كان من الواجب أن يدرسوا القرآن على أنه أبلغ كتاب في العربية لا على أنه دين، والقرآن يدرس في العراق في الصفوف كلها، حتى صف ((البكالوريا))، ويحفظه الطلاب غيباً. ولقد كان عندي في العام الماضي (في الثانوية المركزية ببغداد) كثير من الطلاب اليهود يحفظونه ويفهمونه.

 

5- ويقولون: بأن الحكم الإسلامي يثير مسألة الأقليات. ومسألة الأقليات أصبحت عندنا الشبح المخيف الذي يحول بين الناس وبين الجهر بحقائق الدين، فانصرفوا عن الدين ليرضوا الأقليات، وغدت الصحف (التي يديرها جماعة ممن يسمون بأسماء المسلمين) لا تنشر كلمة فيها ذكر الإسلام، حتى إننا لا نجد في دمشق إلا جريدة ((ألف باء)) المسيحية لنشر البحوث الإسلامية، لأن صاحبها الأستاذ الكبير يوسف العيسى يرضى بنشرها، أفليس هذا عجباً!! ولننظر في الأقليات في كل أمة، ما هو أقصى ما تطلبه؟ أقصى ما تطلبه أن تكون حقوقها السياسة والشخصية محفوظة مثل حقوق الأكثرية، وهذا ما ضمنه لها الإسلام، فعلام إذن تفزع الأقليات من ذكر الإسلام؟

الجواب: إن الأقليات لا تفزع من الإسلام مطلقاً بل تعرف أنه شرع عادل (وهذا هو معالي فارس الخوري رئيس المجلس النيابي أول شاهد على ذلك) ولكن فريقاً من المسلمين يستغلون مسألة الأقليات استغلالاً شائناً قبيحاً.

 

6- ويقولون بأن الجامعة الإسلامية لا يمكن أن تتحقق أبداً. وهذا اعتراض في غير موضعه، لأن البحث في المسألة بحثاً تجريدياً، ومعرفة كونها صواباً أو خطأ، لا يقتضي تطبيقها عملياً، كالذي يدعو الناس إلى ترك السرقة مثلاً، لا يلزمه أن يتولى الشرطة ويمنع السرقة بالفعل، ولقد يكون عاجزاً عن تحقيق هذا الذي يدعو إليه؛ ولكن عجزه لا يمنع أن تكون هذه الدعوة في ذاتها نافعة.

 

على أن الجامعة الإسلامية ممكنة التحقيق، بل لقد تحققت فعلاً في العصور التاريخية الطويلة، ولم ينشأ اليوم مانع جديد من تحقيقها مرة ثانية، أما أشكال تحقيقها فالبحث فيها سابق لأوانه، لكن من أشكال تحقيقها أن يكون للدول الإسلامية (بعد أن تستقل كلها عن الحكم الأجنبي) رابطة كالرابطة الموجودة اليوم بين الحكومات التي تتألف منها الإمبراطورية البريطانية، ونحن نرى أن هذه الحكومات منثورة في كافة أنحاء المعمورة، والبعد بين أوستراليا البريطانية ولندن، أكثر من البعد بين الهند والقاهرة مثلاً، فماذا الذي يمنع من إنشاء هذا الاتحاد يوماً ما وأن يكون على رأسه خليفة مسلم تنتمي إليه هذه الأقطار الإسلامية كلها؟

 

هذه هي حجج القوميين على الحكم الإسلامي، والجامعة الإسلامية، وهي مردودة كلها.

فليعرف الجميع إذن أن الأساس الذي تبنى عليه الحياة السياسية والاجتماعية في سورية وسائر أقطار الشرق الإسلامي إنما هو الدين الإسلامي، وأن ديننا دين علني ظاهر لا نستطيع أن نكتم شيئاً منه إكراماً لطائفة من الناس، لأننا إذا كتمناه فضحنا المؤذن الذي ينشر هذا المبدأ على المآذن خمس مرات كل يوم!

دمشق – علي الطنطاوي

(مجلة التمدن الإسلامي، السنة 4، العدد 1، 1357هـ - 1358هـ / 1938م)


"
شارك المقالة:
23 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook