"
ماهو أثر الكوارث في مفهوم التخطيط الاستراتيجي
يرتبط التخطيط الاستراتيجي بجميع مراحله- في كل القطاعات العامة والخاصة- دائمًا بفرضية الاستقرار والثبات، بدايةً من صياغة الرؤية، ومرورًا بوضع الأهداف الاستراتيجية وصياغة خطط العمل، وحتى وضع البرامج المنطقية للتنفيذ.
وقد كنا أثناء وضع الخطط الاستراتيجية- قبل بضع سنوات- نرتكز بقوة على التحليل الرباعي (SWOT) لنقاط القوة والضعف، والفرص والتحديات، أو التهديدات، أو ما يعرف بمحددات البيئة الداخلية والخارجية، لكن بعد اختلاف الظروف السياسية وما يتبعها، بدأنا العمل بالتحليل السداسي (PESTEL)؛ وذلك بمراعاة المعايير الستة في الحسبان؛ وهي: الظروف السياسية Politics، الاقتصادية Economics، الاجتماعية Social، التقنية Technology، البيئة Environment، والقوانين Law.
وسواء استخدم المحللون أيًا من الأسلوبين، أو كليهما، أو غيرهما من أساليب التحليل؛ فإنَّ فرضية الثبات أو شبه الثبات والاستقرار موجودة في جميع الأحول، خاصةً عند وضع قائمة الأهداف، وخطط العمل وجداول (برامج) التنفيذ، وتحديد التواريخ والمدد اللأزمة للإنجاز، ووسائل رقابتها؛ من خلال أدوات التقييم الاستراتيجي (KPIs)؛ من أجل تقدير الانحرافات بين المخطط والمُنفَّذ أولًا بأول، وتقويمها.
أمَّا في الوضع شديد الضبابية الذي يمر به العالم الآن في ظل جائحة كورونا التي لم تستثنِ أحدًا من الاقتصادات العالمية، فإنَّ التخطيط بكل آجاله الطويلة والقصيرة، بل وحتى خطط العمل نفسها، قد تبدلت منهجيتها؛ وبالتالي برامج التنفيذ المرتبطة بها، كما اختلفت معايير وأدوات التقييم للأداء الاستراتيجي في ظل هذه الكارثة التي حققت- ومازالت تحقق- أرقامًا قياسية في الخسائر البشرية والمادية، مقارنةً بما سبقها من أزمات مر بها العالم خلال الخمسين سنة الأخيرة؛ وهي:
أزمة البترول 1973.
الإثنين الأسود عام 1987.
الأزمة المالية بأسواق شرق آسيا عام 1997.
كارثة الروبل عام 1998.
أزمة الركود الكبير عام 2008.
أزمة الديون السيادية الأوروبية عام 2009.
إلا أنَّ الأزمة الحالية ليس لها مثيل في التاريخ؛ كونها أزمة مركبة ومعقدة وفريدة من نوعها؛ بدأت صحية، ثم أصبحت اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل وعسكرية، فمن كان يتوقع أن تفرض كل حكومات العالم، حظر التجوال بسبب كورونا؟ ومن كان يتوقع أن تتواصل جهود أمريكا والصين معًا لإيجاد مخرج من هذا البلاء، أو أن يصاب رئيس وزراء بريطانيا التي كانت لعدة عقود الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!
إنها كارثة لم يُشَر إليها من قريب أو بعيد في أنشطة التخطيط الاستراتيجي في معظم أو كل دول العالم، سواء في القطاع العام أو الخاص، بالرغم من أنَّ لاقتصاد الأزمات معايير وحدودًا وافتراضات خاصة، يرتبط معظمها بظروف ثابتة مستقرة، مع وجود مرونة كافية في تغيير الأهداف، وخطط العمل، وبرامج التنفيذ، فضلًا عن أنَّه مبنى على حسابات وإحصاءات ومعلومات هائلة تمنحه مرونة عالية. في ظل جائحة كورونا، مهما بلغت مرونة الخطط الموضوعة، ووجود بدائل لها، أو ما يعرف بالسيناريوهات المحتملة الأخرى، أو الخطة البديلة الأولى (Plan B)، أو حتى الخطة البديلة الثانية (Plan C)، كل ذلك بعيد عن الواقع؛ فمثل هذه الكوارث لا يمكن التنبؤ بها، فليس لها هيئة أرصاد جوية، أو اقتصادية تخبرنا بحجمها وقوتها ومدى تأثيرها، لا سيما وأنها بدأت في دولة تعد الثانية عالميًا من حيث قوة الاقتصاد.
التخطيط الاستراتيجي
من خلال هذا الطرح تدور برؤوسنا عدة تساؤلات جديرة بالبحث والدراسة، يمكن صياغتها على النحو التالي:
هل سيختلف مفهوم التخطيط الاستراتيجي مستقبلًا؛ فتظهر مفاهيم جديدة عن التخطيط الاستراتيجي الكارثي مثلًا، بدلًا من التخطيط للأزمات؟ أم هل سيختلف مفهوم إدارة الأزمات إلى إدارة الكوارث؟ مع التذكير بأنَّ التخطيط هو أول الوظائف الأربع للمدير؛ إذ يتبعه التنظيم والتوجيه، وتتوازى الرقابة مع المراحل الثلاث المذكورة.
هل يمكن أنْ تتبنى الأمم المتحدة مفهومًا جديدًا للتخطيط للعالم بحيث تشارك الدول الأعضاء، أو كبار الأعضاء في وضع خطة عمل في حالات الكوارث؟
هل سيكون هناك قيم وأخلاقيات جديدة لأنشطة التخطيط الاستراتيجي عالميًا وإقليميًا ومحليًا، علمًا بأنَّ الكارثة بدأت في الصين، وظهر تأثيرها الشديد في أوروبا، ثم اهتزت معها الولايات المتحدة، كما تأثرت بها الدول المتخلفة الغنية منها والفقيرة؟
هل ستختلف مكونات وأعضاء فرق التخطيط الاستراتيجي؛ ليكون لعلماء الصحة والبيولوجيا والجينات والفيروسات- ومن على دربهم- دور أساسي في التخطيط الاستراتيجي، قبل السياسيين والاقتصاديين والإداريين والعسكريين حفاظًا على سلامة وصحة العالم؟
هل ينطبق على العالم- بكل قطاعاته- مقولة: &ldquoإنَّ المصائب تجمع المصابين&rdquo؛ فيكون المخططون على اطلاع دائم بمصائب الآخرين من البشر، أو ما يعرف بإخوانهم في الإنسانية؟
هل ستختلف أهداف المخططين في العالم؛ فتجتمع حول المفهوم الشامل لجودة الحياة لكل البشر، وليس لطائفة أو جنس أو دولة معينة؟
هل سيختلف مفهوم التخطيط الاستراتيجي في القطاع الخاص باختلاف حجمه ونشاطه، بحيث يمكنه مواجهة مثل هذه الكوارث بسهولة؟
من تلك الأسئلة وغيرها، أرى أننا سنكون بصدد علم جديد اسمه &ldquoالتخطيط الاستراتيجي الشامل&rdquo أو &ldquoالحديث&rdquo أو حتى &ldquoالتخطيط الاستراتيجي الكارثي&rdquo؛ بحيث يكون أكثر شمولًا ومرونة مما نحن فيه من أفعال (رد أفعال) نتيجة أحداث كان من الصعب تخمينها، أو التنبؤ بجزء كبير منها.
"