يرتبط التخطيط الاستراتيجي بجميع مراحله- في كل القطاعات العامة والخاصة- دائمًا بفرضية الاستقرار والثبات، بدايةً من صياغة الرؤية، ومرورًا بوضع الأهداف الاستراتيجية وصياغة خطط العمل، وحتى وضع البرامج المنطقية للتنفيذ.
وقد كنا أثناء وضع الخطط الاستراتيجية- قبل بضع سنوات- نرتكز بقوة على التحليل الرباعي (SWOT) لنقاط القوة والضعف، والفرص والتحديات، أو التهديدات، أو ما يعرف بمحددات البيئة الداخلية والخارجية، لكن بعد اختلاف الظروف السياسية وما يتبعها، بدأنا العمل بالتحليل السداسي (PESTEL)؛ وذلك بمراعاة المعايير الستة في الحسبان؛ وهي: الظروف السياسية Politics، الاقتصادية Economics، الاجتماعية Social، التقنية Technology، البيئة Environment، والقوانين Law.
وسواء استخدم المحللون أيًا من الأسلوبين، أو كليهما، أو غيرهما من أساليب التحليل؛ فإنَّ فرضية الثبات أو شبه الثبات والاستقرار موجودة في جميع الأحول، خاصةً عند وضع قائمة الأهداف، وخطط العمل وجداول (برامج) التنفيذ، وتحديد التواريخ والمدد اللأزمة للإنجاز، ووسائل رقابتها؛ من خلال أدوات التقييم الاستراتيجي (KPIs)؛ من أجل تقدير الانحرافات بين المخطط والمُنفَّذ أولًا بأول، وتقويمها.
أمَّا في الوضع شديد الضبابية الذي يمر به العالم الآن في ظل جائحة كورونا التي لم تستثنِ أحدًا من الاقتصادات العالمية، فإنَّ التخطيط بكل آجاله الطويلة والقصيرة، بل وحتى خطط العمل نفسها، قد تبدلت منهجيتها؛ وبالتالي برامج التنفيذ المرتبطة بها، كما اختلفت معايير وأدوات التقييم للأداء الاستراتيجي في ظل هذه الكارثة التي حققت- ومازالت تحقق- أرقامًا قياسية في الخسائر البشرية والمادية، مقارنةً بما سبقها من أزمات مر بها العالم خلال الخمسين سنة الأخيرة؛ وهي:
إلا أنَّ الأزمة الحالية ليس لها مثيل في التاريخ؛ كونها أزمة مركبة ومعقدة وفريدة من نوعها؛ بدأت صحية، ثم أصبحت اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل وعسكرية، فمن كان يتوقع أن تفرض كل حكومات العالم، حظر التجوال بسبب كورونا؟ ومن كان يتوقع أن تتواصل جهود أمريكا والصين معًا لإيجاد مخرج من هذا البلاء، أو أن يصاب رئيس وزراء بريطانيا التي كانت لعدة عقود الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!
إنها كارثة لم يُشَر إليها من قريب أو بعيد في أنشطة التخطيط الاستراتيجي في معظم أو كل دول العالم، سواء في القطاع العام أو الخاص، بالرغم من أنَّ لاقتصاد الأزمات معايير وحدودًا وافتراضات خاصة، يرتبط معظمها بظروف ثابتة مستقرة، مع وجود مرونة كافية في تغيير الأهداف، وخطط العمل، وبرامج التنفيذ، فضلًا عن أنَّه مبنى على حسابات وإحصاءات ومعلومات هائلة تمنحه مرونة عالية. في ظل جائحة كورونا، مهما بلغت مرونة الخطط الموضوعة، ووجود بدائل لها، أو ما يعرف بالسيناريوهات المحتملة الأخرى، أو الخطة البديلة الأولى (Plan B)، أو حتى الخطة البديلة الثانية (Plan C)، كل ذلك بعيد عن الواقع؛ فمثل هذه الكوارث لا يمكن التنبؤ بها، فليس لها هيئة أرصاد جوية، أو اقتصادية تخبرنا بحجمها وقوتها ومدى تأثيرها، لا سيما وأنها بدأت في دولة تعد الثانية عالميًا من حيث قوة الاقتصاد.
من خلال هذا الطرح تدور برؤوسنا عدة تساؤلات جديرة بالبحث والدراسة، يمكن صياغتها على النحو التالي:
من تلك الأسئلة وغيرها، أرى أننا سنكون بصدد علم جديد اسمه &ldquoالتخطيط الاستراتيجي الشامل&rdquo أو &ldquoالحديث&rdquo أو حتى &ldquoالتخطيط الاستراتيجي الكارثي&rdquo؛ بحيث يكون أكثر شمولًا ومرونة مما نحن فيه من أفعال (رد أفعال) نتيجة أحداث كان من الصعب تخمينها، أو التنبؤ بجزء كبير منها.
"