ماهي أهم الأنشطة في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
ماهي أهم الأنشطة في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

ماهي أهم الأنشطة في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
1 - النشاط السكاني:
 
إنّ أبرز ما يميز منطقة الباحة هو موقعها الجغرافي المميز، إذ كانت على مرِّ التاريخ نقطة اتصال مهمة بين منطقة الحجاز وجنوب شبه الجزيرة العربية، وهي بهذا تقع ضمن الإقليم الجنوبي الغربي من المملكة العربية السعودية، وهو إقليم يتميز بخصوبة التربة ووفرة المياه، علاوة على تنوع طبيعته الجغرافية وظروفه المناخية، مما ساعد على وجود غطاء نباتي متنوع تمثل في الغابات الكثيفة والأحراش والمراعي. وقد أدت هذه الظروف مجتمعة إلى توافر بيئة حيوانية مختلفة، وأسراب متنوعة من الطيور اعتمد عليها الإنسان في معاشه  .
وقد شهدت منطقة الباحة تطورًا كبيرًا في نهاية العصر الحجري الحديث، وربما في فترة من فتراته التاريخية، وإن كان من الصعب تعيين تاريخ محدد لهذه الفترة التاريخية، إلا أنها تشير إلى أن المنطقة قد واجهت خلالها كثافة سكانية عالية، ولا بد أنه قد صاحب هذه الكثافة السكانية تنامٍ في الموارد الطبيعية، وزيادة في النشاط السكاني  .  ومن الواضح أن سكان هذه المنطقة قد تفاعلوا مع موارد بيئتهم وفق إمكاناتهم وظروفهم، وقد جسَّدوا ذلك من خلال ما خلفوه من أنشطة حياتهم اليومية، ومن تلك الأنشطة الرسوم والنقوش الصخرية التي خلدوها على واجهات الصخور، ومداخل الكهوف، وفي أمكنة متفرقة من المنطقة، بما يؤكد أن المنطقة لم تكن بمعزل عن النشاط السكاني الذي ساد مناطق الجزيرة العربية في عصورها التاريخية القديمة المختلفة.
 
ويمكن تتبع النشاط السكاني في المنطقة عبر عصورها التاريخية من خلال بعض الدلائل الأثرية التي تنتشر في المنطقة، ففي المجال الاقتصادي يمكن القول: إن المنطقة قد شهدت حركة اقتصادية نشطة تمثلت في المجالات الآتية:
 
2 - النشاط التجاري:
 
كان مورد التجارة من أهم الموارد الاقتصادية التي أدت دورًا أساسيًا في تشكيل الحياة الاقتصادية في مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، فضلاً عن التأثيرات التي أحدثها هذا المورد في المجالات الاجتماعية والسياسية والدينية. وقد أدت الطرق التجارية البرية والبحرية دورًا مهمًا في انتعاش تجارة شبه الجزيرة العربية. وكان من أبرز الطرق التجارية البرية في شبه الجزيرة العربية الطريق الذي عُرف عند الكتاب الكلاسيكيين بـ "درب البخو"،  وقد استخدم من قِبل القوافل التجارية القادمة من جنوب شبه الجزيرة العربية والمتجهة إلى المراكز والحواضر التجارية الواقعة على الأطراف الشمالية من شبه جزيرة العرب وعلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط  
 
واستمر طريق البخور  يؤدي دوره التجاري في نقل تجارة شبه الجزيرة العربية. وحين تحول الميزان التجاري لصالح قبيلة قريش شهد الطريق فعاليات تجارة المجتمع القرشي المشهورة تاريخيًا، والمتمثلة في رحلتي الشتاء والصيف. وعندما بدأت تجارة قريش بالاضمحلال نتيجة لظهور الدعوة الإسلامية تحولت استخدامات هذا الطريق وغيره من الطرق البرية الأخرى  .  حيث نجد عددًا من الحملات والسرايا القادمة من الحجاز إلى الجنوب قد سلكت هذا الدرب  ،  ومن هنا دخل الطريق مرحلة تاريخية جديدة مهمة تمثلت في استخدامه من قبل قوافل الحج، إذ حلت قوافل الحجيج القادمة من جنوب شبه الجزيرة العربية محل القوافل التجارية، ومن هنا تحولت الوظيفة العملية لهذا الطريق من المادية إلى الدينية الخالصة  .  وبهذا أصبح مسار الطريق التجاري القديم من أبرز مسارات الطرق الإسلامية الرئيسة التي تصل الحواضر الإسلامية في جنوب شبه الجزيرة العربية بالديار المقدسة في الحجاز  
 
ومن المؤكد أن هذا الطريق كان يمر بالأطراف الشرقية لمنطقة الباحة، إذ تتضح معالمه في عشرة مواقع تابعة لمحافظة العقيق، ومنها موقع جرب الذي يبعد عن الباحة لمسافة 95كم شرقًا، ويبعد عن محافظة العقيق بنحو 45كم تقريبًا شرقًا.
 
وتظهر معالم الطريق في هذا الموقع من خلال رصف للطريق من الوسط محاط بجدارين متوازيين وبشكل متقطع بمسافات مختلفة، تتخلله بعض الركامات الحجرية التي ربما كانت تمثل علامات لمسار الطريق، وإلى الشمال من هذا الموقع على بعد نحو 30كم تظهر علامات للطريق في الفترة الإسلامية في موقع بداية الحائط  
وعلى مسافة 10كم من هذا الموقع باتجاه الشمال تظهر معالم الطريق القديم في موقع كرا الحائط  حيث يظهر جزء منه مرصوفًا لمسافة 10م تقريبًا بالقرب من المدرسة الابتدائية باتجاه الشمال، وعلى مسافة 5م يظهر مرة أخرى بصورة متقطعة، ثم يعاود الظهور وسط أحجار الحرة السوداء، إذ يمكن رؤية جزء من الطريق مرصوفًا بشكل هندسي، وبطريقة منحنية حتى يهبط الوادي، ثم يأخذ في الظهور ثانية بعد الوادي. وتختفي معالم الطريق بعد ذلك، ثم تعاود الظهور مرة أخرى في موقع القريرة على بُعد 10كم من الموقع السابق. وتبرز معالم الطريق هنا بامتداد سبعين مترًا، مرصوفًا ومحدد الجوانب. أمّا بقية المواقع العشرة فتقع إلى الشمال من هذا الموقع وهي على النحو الآتي: البعيثة، إيهار، سايد، أم لال، خلافة، شعبة خيل، وتمثل جميعها معالم للطريق في الفترة الإسلامية. 
 
وهناك مسار آخر للطريق التجاري القديم يمر عبر الساحل، ومن المحتمل أنه كان يمر بالأطراف الغربية لمنطقة الباحة. ومن المرجح أن سكان هذه المنطقة قد أسهموا ولو بجزء يسير، واستفادوا من القوافل التجارية التي كانت تعبر أراضيهم في عصورها التاريخية القديمة كأدلاء أو خفراء لهذه القوافل.
 
3 - النشاط الزراعي:
 
إلى جانب النشاط التجاري هناك دلائل تشير إلى وجود نشاط زراعي في منطقة الباحة حيث تنتشر المدرجات الزراعية  في مرتفعات الباحة بصورة تدعو إلى الإعجاب  .  إضافة إلى أسلوب المدرجات الزراعية السائدة في المنطقة، فقد كان السكان يعمدون إلى تحويل واجهات التلال والمرتفعات إلى سلسلة من المدرجات الأفقية. وقد ساد هذا النوع في شبه الجزيرة العربية خصوصًا في المرتفعات الغربية، والجنوبية، والجنوبية الغربيّة منها، نظرًا إلى كونها عرضة لسقوط كمية كبيرة من الأمطار بفعل الرياح الموسمية التي تهب عليها من المحيط الهندي في فصل الصيف. ويعتقد أن من أسباب قيام المدرجات الزراعية رغبة السكان سكنى المناطق المرتفعة، والبعد عن السهول وبطون الأودية لعدم ملاءمتها صحيًّا وكثرة الحمَّى فيها، فضلاً عن كونها غير مناسبة للاستقرار من الناحية الأمنية  . 
 
وربما يعود السبب الحقيقي في ظهور أسلوب المدرجات الزراعية في الباحة إلى الكثافة السكانية التي شهدتها المنطقة في نهاية العصور الحجرية، وبداية العصور التاريخية، حيث توحي تلك الفترة بوجود نشاط سكاني كثيف سواء في مناطق السهول الساحلية، أو في مناطق المرتفعات الجبلية. ومن المحتمل أن تكون الكثافة السكانية قد فرضت على سكان المنطقة زيادة استصلاح الأراضي الممكن زراعتها  ،  وبخاصة في المرتفعات، للاستفادة من كمية الأمطار الساقطة عليها؛ مما دفع الناس إلى استصلاح سفوح المرتفعات الجبلية فتكونت المدرجات الزراعية  ،  إذ نجح الإنسان في استصلاح سفوح المرتفعات باستثناء المناطق الشديدة الارتفاع التي أهملت لصعوبة تضاريسها ولكثافة أشجارها الطبيعية خصوصًا شجر العرعر  .  وتختلف أحجام المدرجات الزراعية تبعًا للتكوين الطبيعي لكل منطقة.
 
وقد نالت المدرجات الزراعية إعجاب الرحالة الذين زاروا جنوب الجزيرة العربية، ووصفوها بأنها أشبه ما تكون بالمسرح الروماني، ولكن لا حدود له، وقد صنع فيه الإنسان العربي صفوفًا من المقاعد  .  وتظهر المدرجات الزراعية في الباحة وهي تغطي معظم واجهات المرتفعات بصورة هندسية بديعة، وقد صاحب بناء هذه المدرجات الزراعية إنشاء عدد من القنوات لتصريف مياه السيول الجارفة، إضافة إلى حفر عدد من الآبار، وصاحب ذلك إنشاء عدد هائل من القنوات الزراعية والأحواض المائية. ولا بد أنه كان وراء قيام هذه المنشآت إمكانات مادية ومهارات فنية عالية، فضلاً عن وجود جهة إدارية تشرف عليها وتتحكم في تنظيمها. ويعتقد أن هذه الإمكانات ربما توافرت في المنطقة في عصر من عصورها القديمة، وقد يكون ذلك سابقًا لعصر الكتابة، نظرًا إلى غياب عنصر الكتابة الذي يُوَثِّق نشأة هذه المنجزات الزراعية  
 
4 - التعدين:
 
ومن الأنشطة الاقتصادية التي يعتقد أن سكان هذه المنطقة مارسوها في عصورهم القديمة نشاط التعدين واستخراج المعادن. وقد كشفت المسوحات الأثرية التي تمت في كل من تهامة والسراة عن وجود مناجم للتعدين يرجع تاريخ استغلالها إلى عصور ما قبل الإسلام. وتعد العقيق نموذجًا لمناطق تعدين الذهب في عصور ما قبل الإسلام  .  وكانت مناجم العقيق عروقًا من الكوارتز تحمل الذهب مع بعض الخصوبة الثانوية، وتعد منطقة العقيق أكبر منجم للذهب، ومن أبرز مناجمها منجم أبناء فرك شمال شرق العقيق، ويحتوي الموقع على قرية أو مستوطنة صناعية  يزيد عدد المباني فيها على 100 منشأة، ويوجد في وسط المنشأة عدد من كسر الرحى والمساحق والمدقات التي كانت تستخدم لفصل الخبث عن المعدن  .  وبالإضافة إلى مناجم العقيق هناك المناجم الواقعة عند خيال (المصنع)، وحوش السلمان، والمنهل، وفي وادي بيدة وهذه المناجم جميعها غنية بالذهب وكانت تنتجه بكميات وفيرة.
 
وتصاحب المناجم مستوطنات صناعية يرجع تاريخها إلى حضارة جنوب شبه الجزيرة العربية ما يوحي إلى أن هذه المناجم قد تم استغلالها في فترة ما قبل الإسلام، وأعيد استغلال بعضها في العصر العباسي. وتبرز خصائص المستوطنات العربية الجنوبية من خلال شكل معين من الجدار الحجري المزدوج، حيث يملأ الفراغ في وسطه بمادة الدبش، ويبلغ سمكه في العادة نحو ستة أمتار. وقد وجد مثل هذا النوع من البناء في المواقع التي تم التنقيب فيها في بعض الأجزاء من جنوب الجزيرة العربية، مثل: حجر بن حميد، ومدينة تمنع. كما وجد في موقع الأخدود بنجران، وموقع جرش بأحد رفيدة في منطقة عسير، وفي ساحل البحر الأحمر، وجزر فرسان في منطقة جازان، ووجد في بعض المستوطنات القريبة من مناجم العقيق، مثل: العبلاء فخار عربي جنوبي. وتختص المستوطنات العربية الجنوبية بوجود كثبان من النفايات، وأكوام الخام المسحوق، وهذا ما نشاهده في مناجم العقيق. ويصاحب المواقع التي تنسب إلى حضارة جنوب شبه الجزيرة العربية مجموعة من المدافن وتوجد فوق المرتفعات في عزلة  ،  ولا يوجد بالقرب منها وحدات سكنية، ونستشف مما سبق أن منطقة الباحة كانت قد تأثرت بحضارات جنوب الجزيرة العربية في عصر ما قبل الإسلام.
 
5 - الحياة الدينية:
 
لم يقتصر اهتمام سكان شبه الجزيرة العربية على الجانب المادي، بل كان الجانب الروحي يمثل عنصرًا أساسيًا في حياة السكان المادية والفكرية، ولو استعرضنا الكتابات والنقوش العربية القديمة لوجدنا كثيرًا منها يشير بصورة واضحة إلى الدين وإلى أهميته في حياة الناس، ومن النادر أن نجد نصًا واحدًا لا يشير إلى الجوانب الدينية، ولا غرابة في ذلك فالدين في حياة شعوب شبه الجزيرة العربية لم يكن مجرد اعتقاد فحسب، بل كان يمثل مفهومًا سياسيًا ونشاطًا اقتصاديًا، وبنية اجتماعية. وقد سادت الديانة الوثنية في أنحاء شبه الجزيرة العربية؛ مما أدى إلى تعدد المعبودات في شتى بلاد العرب. 
 
ولم يكن سكان هذه المنطقة بمنأى عن عبادة الأوثان، إذ تشير بعض المصادر إلى المعبودات التي كانت تعبد من قِبل سكان المنطقة، ومنها: ذو الخلصة، حيث يذكر ابن إسحاق ما نصه: "وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة"  ،  ومنها كذلك ذو الكفين، وذو الشرى.
 
ولتقديس هذه المعبودات أقام قدامى العرب المعابد التي تؤدى فيها الطقوس الدينية  .  وتشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن معبد ذي الخلصة كان يقع في بلاد دوس التابعة لمحافظة المندق إحدى محافظات منطقة الباحة  .  وقد اعتمدت هذه الدراسات على ما ذكره بعض المؤرخين من أنه في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود تم هدم بناء في شروق   من بلاد دوس من زهران يعتقد أنه ذو الخلصة  .  وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على آثار لبنيان كان يوجد في قمة الجبل مما يلي تهامة. أمَّا اليوم فلم يعد لهذا البنيان أي أثر.
 
واختلفت المصادر التاريخية حول موضع ذي الخلصة؛ فقد ذكر الأزرقي أن عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة  ،  كما قال بذلك الفاسي   وهذا وهم؛ فقد أشار ابن الكلبي إلى أن ذا الخلصة مروة بيضاء منقوش عليها كهيئة التاج، وكانت بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليالٍ من مكة، وكان سدنتها بني أمامة من باهلة بن أعصر، وكانت تعظمها وتهدي لها خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن؛ ففيها يقول خِداشُ بن زُهير العامري   لعثعث بن وحشيٍّ الخثعمي   في عهد كان بينهم فغدر بهم:
 
ذكرتــه باللـه بينـي وبينـه     ومـا  بيننـا مـن مدة لو تذكّرا
وبـالمروة البيضـاء يـوم تبالة     ومحبسة  النعمان حيث تنصرا  
وفي رواية ابن هشام يذكر أن ذا الخلصة بأرض تبالة  .  وقريبًا من ذلك يقول الهمداني: إن ذا الخلصة بناحية تبالة  ،  وذكر ذلك - أيضًا - ياقوت الحموي  ،  وخالف البكري هؤلاء حيث يشير إلى أن ذا الخلصة بيت بالعبلاء  ،  وشاركه في ذلك ابن حبيب  . 
ويتضح مما سبق اضطراب الروايات التاريخية حول موضع ذي الخلصة، ومن الملاحظ أن الدراسات الحديثة التي حاولت تحقيق هذا الموضع لم تتطرق إلى آثار ذي الخلصة في تبالة وتجاهلتها مع تجاهلها اتفاق معظم الروايات التاريخية على وجود ذي الخلصة بأرض تبالة. وتوجد آثار المعبد في أعلى وادي تبالة من جهة الغرب على قمة جبل يسمى عرق الطاغوت، ويحده من الجنوب وادي تبالة، ومن الغرب شعب الصخبرية، ويحده من الشرق وادي سروم وقرى تبالة الحديثة  
 
ويتضح مما سبق أن ذا الخلصة كان بأرض تبالة من خثعم، وليس هناك ما يمنع أن يكون له موضع آخر في بلاد دوس بزهران، وقد كان أقوام متباعدون في المنازل يعبدون صنمًا واحدًا  .  ولو صح أن الآثار التي كانت موجودة في أرض دوس هي لذي الخلصة فهذا ربما يؤكد وجود معبد آخر لهذا الصنم في هذه المنطقة، خصوصًا إذا علمنا أن كثيرًا من معبودات العرب كان لها عدد من المعابد. ولم يكن الناس يكتفون بتشييد معبد واحد بل نجدهم يقيمون عددًا من المعابد، وقد خصص بعضها لعبادة جملة معبودات، وخصص بعضها الآخر لعبادة معبود واحد  
ولا توجد لذي الخلصة أي آثار على قمة الشفاء المعروف بـ (شفاء بني علي) من بلاد دوس  ،  ولكن يوجد معبد آخر لهذا الصنم في أرض تبالة، دلت على ذلك الأخبار وأكدته الآثار  
 
ولم يكن ذو الخلصة - فيما يبدو - المعبود الوحيد في المنطقة، بل كان لدوس صنم آخر هو ذو الكفين  ،  فقد أورد ابن الكلبي ما نصه: وكان لدوسٍ   ثم لبني منهب بن دوس صنم يقال له ذو الكفين، فلما أسلموا بعث النبي صلى الله عليه وسلم الطُّفيل بن عمرو الدوسي فحرَّقه وهو يقول:
 
يا ذا الكَفَيْنِ لست من عُبَّادكا
ميـلادنا أكبـر من ميلادكـا
إني حشوت النار في فؤادكا  
 
وبعد فتح مكة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالسرايا لتحطيم الأصنام فبعث بخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العُزى وبعث بالطفيل بن عمور الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين فأخذ يحرقه  
 
ومن الملاحظ أن ذا الكفين يطلق على اسم قرية حديثة من قرى دوس في بلاد زهران، فهل لهذا الاسم علاقة بهذا المعبود؟، والسؤال بصورة أخرى، هل أقيمت القرية في الموضع الذي كان يعبد فيه أهل دوس ذا الكفين؟
 
ومن المؤكد أنه كان لدوس وأزد السراة معبودات أخرى، فقد ذكر الإخباريون أن الصنم ذا الشرى كان من أصنام دوس بالسراة، وفي ذلك يقول ابن الكلبي عن ذلك: وكان لبني الحارث بن مبشر من الأزد صنم يقال له ذو الشرى وله يقول أحد الغطاريف:  
 
إذن لحللنا حول ما دون ذي الشرى     وشج  العـدا منَّا خميس عرمرم  
ومن هنا تكون دوس قد عبدت ذا الخلصة، وذا الكفين، وذا الشرى وربما عبدت غير هذه المعبودات الثلاثة.
 
6 - الحياة الأدبية:
 
من الصعب استبانة واقع الحياة الأدبية في المنطقة مدار البحث في عصور ما قبل الإسلام؛ لأن هذه الفترة من تاريخ المنطقة لا تنطوي على كثير من المصادر لندرتها وقلتها، فالنقوش القديمة التي تعد أهم المصادر التاريخية لأحوال العرب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، والأدبية وغيرها، تصمت عن الحديث عن أوضاع السكان الذين عاشوا فيها ودرجوا على ترابها.
 
وأمام هذا الواقع فليس أمامنا من سبيل سوى اللجوء إلى المصادر الإسلامية للبحث من خلالها عما قد يبصرنا بنتاج الحركة الأدبية لتلك المرحلة حتى المصادر الإسلامية نفسها لا تقدم لنا ما يشفي الغليل في هذا الجانب باستثناء نبذ من الأشعار التي اشتملت على أبواب الشعر، مثل: شعر المديح، وشعر المفاخر، وذكر الوقائع فيما كان من الأيام والحروب القبلية، وشعر المراثي وغيرها من مجالات الشعر المتعددة.
 
وفي ضوء ما سبق يمكن القول: إن المصادر الإسلامية قد زودتنا بأسماء عدد من الشعراء، ممن ينتسبون إلى سكان هذه المنطقة، سواء ممن قضى نحبه في الجاهلية، أو عاش حتى أدرك الإسلام  
 
تعد قبيلة دوس الأزدية إحدى البطون الأربعة التي تتكون منها قبيلة زهران واحدة من أخصب بيئات الشعر في بلاد السراة  ،  فقد نبغ من أبنائها شعراء كثر سواء في الجاهلية، أو في الإسلام ومن أبرزهم:
 
أ) الطفيل بن عمرو الدوسي:
 
كان من أشراف قومه في الجاهلية، وكان القوم يطيعونه ويأتمرون بأمره، وكان شاعرًا غنيًا، كثير الضيافة، وقد أسلم وحسن إسلامه  ،  وعندما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه أنشده بعضًا من شعره، فتلا النبي عليه سورة الإخلاص والمعوذتين فأسلم، وكانت قريش تحاول أن تصده عن الإسلام، إذ أدركوا أن إسلامه سيؤدي إلى إسلام قومه، لمكانته بين قومه، ووصل بهم الأمر إلى أن هددوه بالقتل إن أسلم، فأنشد قائلاً:
 
ألا  أ بلــغ لـديك بنـي لـؤي     علـى  الشـنآن والغضب المردِّي
بـأن  اللــه رب النـاس فـرد     تعــالى  جـده  عـن كـل نـدِّ
وأن محــمدًا عبــدٌ رســولٌ     دليـلُ هـدًى ومُـوْضحُ كلِّ رشدِ
رأيــت لــه دلائـل أنبـأتني     بــأن  ســبيله يهـدي لقصـدِ
وأن اللـــه جلّلـــه بهــاءً     وأعلـى  جَـده فـي كـل جَـدّ  
وهو الذي قام بحرق معبود دوس "ذي الكفين" كما مر معنا، ويلقب بذي النور، فعندما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا نبي الله إن دوسًا قد غلب عليهم الزنا، فادع الله عليهم فقال النبي: اللهم اهدِ دوسًا، فقال يا رسول الله ابعثني إليهم، ففعل، فقال: اجعل لي آية يهتدون بها، فقال له النبي: اللهم نور له، فسطع نور بين عينيه، فقال: إني أخاف أن يقول مُثلة، فتحول النور إلى طرف سوطه، فكان يضيء له في الليلة الظلماء  
 
ب) جهمة بن عوف الدوسي:
 
شاعر جاهلي وهو من المعمرين إذ عاش ما يقرب من ستين وثلاثمئة سنة، وعاش حتى سقط حاجباه على عينيه، وقد أدرك الإسلام فكان إذا سمع من يقول لا إله إلا الله، يقول: لقد أدركت في شيبي أناسًا يقولون هذه العبارة، ويقال إنه كان يمر بالوادي وفيه من شجر الدوم، فيقول لقد كنت أمر بهذا الوادي وما فيه شجرة، وفي ذلك يقول:
 
كـبرت وطـال العمر حتى أنابني     سـليم أفـاعي ليلـة غـير مودعِ
فمـا  السـقم أبلاني ولكنْ تتابعت     عليّ سـنون مـن مصيف ومربعِ
ثلاث  مئـين قـد مـررن كواملاً     وهـا  أنـا ذا أرتجيهـا لأربـعِ  
 
ج) سواد بن قارب الدوسي:
شاعر مخضرم، وهو من أعلم أهل زمانه، وقد اشتهر في جاهليته بالكهانة والشعر، وكانت له منـزلة رفيعة بين قومه، ومن أطولهم باعًا في جميع الكلام، وفي الإصابة في التعبير  .  وكان من أوائل من أسلم من أهل السراة، إذ كان إسلامه قبل الهجرة، وقد وفد على رسول صلى الله عليه وسلم ليسلم عليه ثم قال له: قد قلت شعرًا فاسمعه مني، ثم قال:
 
أتـاني  رئـيي بعـد ليل وهجعة     ولـم أكُ فيمـا قـد بُليـتُ بكاذبِ
ثلاث  ليــال قولـه كـل ليلـة     أتـاك  نبـي مـن لؤي بن غالبِ
فشمرت عن ساقي الإزارَ ووسّطت     بي  الذعلب الوجناء عند السباسبِ
فأشــهد أن اللـه لا رب غـيره     وأنـك  مـأمون علـى كل غائبِ
وأنـك  أدنـى المرسـلين شفاعة     إلى  اللـه يابن الأكرمين الأطايبِ
فمرنـا  بمـا يأتيك يا خير مرسل     ولـو  كان فيما جاء شيب الذوائبِ
وكـن  لي شفيعًا يوم لا ذو شفاعة     سـواك  بمغن عن سواد بن قاربِ
وقد أدى دورًا بارزًا بين قومه دوس بعد نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خشي ألا يثبتوا على دينهم، وأن يرتدوا عن الإسلام كما فعل غيرهم  ،  أو أن بعضًا منهم قد ارتد بالفعل كما يفهم من سياق حديثه، فوقف فيهم خطيبًا قائلاً: يا معشر دوس إن من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، وإن من شقاوتهم ألا يتعظوا إلا بأنفسهم، وإن من لم تنفعه التجارب ضرته، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس  
 
د) الحارث بن الطفيل الدوسي:
 
شاعر جاهلي من فرسان العرب في الجاهلية، وقد ذكر أنه قال شعرًا في الحرب التي وقعت بين قومه وبين الحارث بن يشكر قبل ظهور الإسلام  ،  ومن شعراء دوس كذلك عدي بن وادع الدوسي، عمرو بن حممة الدوسي، وهب بن عبدالله الدوسي، الأغلب بن نباته الدوسي  ،  وقد اشتهرت قبيلة غامد كذلك بعدد من الشعراء، منهم: مالك بن ربيعة الغامدي، وهو القائل:
 
ولنعـم  حشـو  الـدرع يوم لقيته     سعد ونعـم فتـى النـدى المنتدي
طاعنتـه والمـوت يلحـظ دائبًـا     مهـجَ النفـوس متـى يقال له رِد
فـأزالني  عنـه الشـليل وفارس     يحنو  عليـه وفـارس لـم يشهدِ  
ومنهم - أيضًا - الشاعر عمرو بن عبد الله بن كعب الغامدي الأزدي: هو الجد الذي تنسب إليه قبيلة غامد واسمه عمرو بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وقيل سمي غامدًا لأنه كان بين قومه شيء فأصلحه، وتغمدهم بذلك، أو أنه وقع بين عشيرته شر فتغمد ذنوبهم - أي - غطاها وسترها، فقال:
تحـملت للصلح الثاءً من عشيرتي     فأسماني  القيل الحضوري غامدا  
 
شارك المقالة:
62 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook