ماهي مقومات الحركة الثقافية بمنطقة الجوف في المملكة العربية السعودية.
التعليم
شهدت منطقة الجوف في بدايات الحكم السعودي تطورًا نوعيًا من حيث أوعية الثقافة والتعليم وسبل نشرها؛ فقد انتشرت المدارس، وكثرت الوفود التوعوية سواء على مستوى الحاضرة أو البادية، وتمت مشروعات توطين البادية حول مصادر المياه التي ارتادتها القبائل الرعوية في العصور السابقة. وكانت بدايات التعليم بسيطة، ثم وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. ولكي ندرك مدى التطور التعليمي وتسلسله نقتطف بعض الأدلة التي ترويها معظم المصادر. ففي مقابلة مع معالي أمير منطقة الجوف الأسبق، عبدالرحمن بن أحمد السديري، نشرها سعد بن عبدالله بن جنيدل، ورد الوصف الآتي للتعليم:
" قبل عام 1362هـ كان التعليم بالمنطقة بدائيًا، حيث تجتمع مجموعة من الأولاد، تتلقى تعليم القرآن الكريم والقراءة والكتابة بشكل غير منظم على أيدي بعض الأشخاص الذين يحسنون القراءة والكتابة داخل بعض المساجد أو ما يسمى (الكتاتيب)، ويومها كان الذين يقرؤون ويكتبون بالمنطقة يعدُّون على رؤوس الأصابع، وكان أول مدرس تابع لوزارة المعارف (التربية والتعليم حاليًا) قد وصل إلى المنطقة عام 1363هـ حيث بدأ التعليم فيها انطلاقته، وأخذ يتطور تبعًا لتطور التعليم في المملكة حتى وصل إلى ما هو عليه في العام 1395هـ / 1975م، حيث تعم المدارس المتوسطة والثانوية "
وقد قفز التعليم في منطقة الجوف من مدرسة ابتدائية واحدة بها مدرس واحد وستون طالبًا في عام 1362هـ / 1943م، إلى تنوع مدارس التعليم العام من الابتدائية، إلى الثانوية، إلى الكليات الجامعية المتعددة (كلية المعلمين، والمعاهد المهنية المختلفة، وفرع جامعة الملك سعود، وكلية المجتمع، والكلية التقنية) , وأخيرًا ضُمَّت هذه الكليات تحت مظلة (جامعة الجوف).
ويضاف إلى التعليم العام تنامي الاهتمام بالمنطقة من حيث الحملات التوعوية سواء منها الدينية أو التعليمية، ومحو الأمية، والأنشطة الثقافية المتعددة. ويذكر ابن جنيدل أن أولى حملات التوعية التعليمية والدينية كانت في عام 1387هـ / 1967م وقد أقامتها وزارة المعارف , وبعدها توالت الحملات. ليس هذا فحسب، بل إن منطقة الجوف دأبت على عقد ندوات وأسابيع ثقافية وفكرية متنوعة، إضافة إلى انتشار مصادر المعرفة المتعددة والمحاضرات العامة. وهنا لا بد من التنويه بأن تطور المواصلات والاتصال كان له أهمية قصوى في تغذية الحياة الفكرية والثقافية؛ فوصول المجلات والصحف السيارة باستمرار وفي وقتها من خلال رحلات الخطوط الجوية العربية السعودية كان له دور بارز في تفعيل الثقافة والفكر، وتواصل تنامي الحياة الفكرية والثقافية في منطقة الجوف؛ وبخاصة بعد افتتاح النادي الأدبي الثقافي تحت إدارة نخبة متميزة من مثقفي رجال الفكر وإشرافهم في المنطقة. وهذا مؤشر يؤكد أن المنطقة أصبحت مركز جذب للسكان، لدرجة تضاعف فيها السكان عددًا من المرات عما كانت عليه الحال في بدايات توحيد المملكة، ومع هذا الازدياد الهائل برزت الحاجة إلى توسيع القاعدة الخدماتية، مثل: التعليم، والصحة، والأجهزة الإدارية والقانونية. كل هذه – لا شك - عوامل تدعم التفاعل الثقافي والفكري وتوسع مساحته، وما سنعرض له لاحقًا هو نتيجة حتمية لهذا التفاعل.
البنى والمؤسسات المعنية بإنتاج الثقافة وبثها وتطويرها
تعتمد الحركة الفكرية والثقافية في المجتمع على مقومات خاصة، منها ما هو مؤسساتي، سواء كان رسميًا أو خاصًا، ومنها ما هو غير ذلك. لكنها جميعًا تعتمد على وجود القائمين بأمر الثقافة والفكر، إضافة إلى وجود الرغبة والإرادة، ولا شك أن هذه العناصر توافرت في منطقة الجوف بدرجات متفاوتة وحسب ظروف زمانية ومكانية خاصة. كما أن بث الثقافة في مجتمع منطقة الجوف اعتمد في البدايات الأولى على المشافهة؛ بسبب ندرة وسائل نشر الثقافة والفكر آنذاك. ومن المؤسف أنه لم تتح الفرصة لتوثيق جهود رواد العمل الثقافي في المنطقة، ولعل مثل هذه المفارقة هي ثمن الريادة الحقيقية، فقد كان في الجوف جيل لا بد أن نسميه (الجيل المؤسس)، كان يتبادل الشأن الثقافي والفكري، وله جهود يذكرها كثيرون حتى هذا اليوم لكنها للأسف لم تُرصد أو تُسجل، غير أن بعض الجهود المبذولة حديثًا تحاول التوثيق لتلك الفترة وروادها . والجيل الحالي يذكر أسماء كثيرة في شؤون الثقافة المختلفة؛ منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد الجبر اللبيخان، وعبداللطيف الصالح، وعبدالواحد الصالح، وحمود مريحيل الضويحي، وثاني عقلا الحميد، وثامر المحيسن وعابد إبراهيم الجوفي. فهؤلاء وأمثالهم أسهموا في تأسيس أنشطة مكتوبة وغير مكتوبة كما كان لهم نشاطهم الابتدائي في شؤون ثقافية تتعلق بتبادل الشأن الفكري على مسارح المدارس وبث المعرفة اللاصفية؛ وهو نشاط أولي إذا ما قيس بمقاييس اليوم، لكنه بالتأكيد نشاط تأسيسي مهم. ولعل أغلب أبناء منطقة الجوف يشير بكثير من العرفان إلى المعلم الفلسطيني محمد إبراهيم محمد الذي عمل في التعليم ما يقارب نصف القرن، وتتلمذ على يديه كثير من أبناء المنطقة.
ولعل الجيل السبّاق في مضمار المعرفة هو جيل القضاة ومن تعلَّم وعلَّم في نظام الكتاتيب، حيث كان لهؤلاء في الجوف دور يذكره أهل المنطقة بكثير من العرفان. فضمن نظام الكتاتيب يورد عبدالرحمن السديري في كتابه (الجوف- وادي النفاخ) مجموعة من الرعيل الأول الذين أفادوا من هذا النظام التأسيسي مثل: شفق بن مرزوق الرشيد، وعبدالعزيز بن شفق الضميري، وأحمد بن خليفة المظهور، ومسلم البراهيم المران، وخليف بن مسلم السطام، ومناور الهايس، وسمير بن عمر الدرعان، وشبيب بن سطم العبدالله الصالح، وإبراهيم بن عابد البراهيم الحباب، ومحمد بن خالد الوشيح، وعبدالرحمن بن صليع المرزوق الدرعان، والشيخ خلف البخيت
أما فيما يتعلق بدور القضاة والعلماء، فيذكر الجميع الدور البارز الذي نهض به الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك - رحمه الله- الذي تولى القضاء في المنطقة في عقدي الأربعينيات والخمسينيات الميلادية. وعن دور القضاة يقول الباحث صالح بن حماد العنـزي: وقد أدى القضاة دورًا مهمًا في المنطقة فبالإضافة إلى القضاء كانوا يقومون بأعمال توجيهية وتربوية... ومن القضاة الذين أدوا تلك الأدوار في المنطقة الشيخ فيصل بن عبدالعزيز بن مبارك من أهل حريملاء... وقد كان له أثر ملحوظ في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس في أمور دينهم، كما كان له أثر كبير في تعليم كثير من أبناء الجوف. ويضيف الباحث في موضع آخر: كان له الفضل الكبير في نشر الوعي الديني، والثقافي، والتعليمي بين أهالي مدينة سكاكا حتى وفاته، حيث جنَّد نفسه للتدريس على ثلاث فترات: في الصباح بعد طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر، وبعد صلاة المغرب، وكان تدريسه في جامع السوق الذي أشرف على توسعته بنفسه، وسُمي فيما بعد باسمه. ولا شك أن العنـزي هنا يتفق كثيرًا مع ما ذهب إليه ابن جنيدل الذي أفرد للشيخ المبارك صفحات من المناقب الحميدة وترجمة قيّمة . وفي هذا الاتجاه أيضًا يذهب إبراهيم خليف السطام في كتابه (مسيرة التعليم في منطقة الجوف خلال مئة عام)، حيث يقول: إن الشيخ مكث في الجوف قرابة خمسة عشر عامًا ترك خلالها أثرًا كبيرًا وواضحًا في النواحي التعليمية والاجتماعية كلها، فكان القدوة الحسنة والصورة الحية، والداعية الذي يذكّر الناس بالله عز وجل
ولئن كان دور المبارك فاعلاً في مدينة سكاكا، فإن أهل دومة الجندل والقريات يذكرون بالعرفان الشيخ خلف البخيت الذي يقول عنه العنـزي: إنه أدى دورًا مهمًا في تثقيف عدد غير قليل من أبناء دومة الجندل وتعليمهم وكان له الفضل الكبير في تعليم القرآن الكريم وتحفيظهم إياه، وقد أسهم إسهامًا فاعلاً في تثقيف أبناء دومة الجندل ثقافة إسلامية واسعة، وقبل ذلك قام بالدور نفسه في مدينة القريات . ويحفظ عبدالرحمن السديري السمات نفسها للشيخ البخيت، حيث يقول إنه الذي تعلم على يديه عدد غير قليل من ناشئة دومة الجندل، وكان له فضل كبير في تعليمهم القرآن وتحفيظهم إياه، وقد أسهم في تثقيف مجتمعه ثقافة إسلامية واسعة
ولا شك أن هؤلاء القضاة الأفراد قد أسسوا ما ضمن للمعرفة سبل استمراريتها. فالشيخ المبارك مثلاً تتلمذ عليه من قاموا فيما بعد بالدور نفسه، إذ إن بعض تلامذته تسنموا مقاليد القضاء والتعليم والإرشاد، بل إن منهم مَنْ حصل على أعلى الدرجات العلمية، في مجالات معرفية وثقافية عدة. ومن هؤلاء - على سبيل المثال لا الحصر-: الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العبدالوهاب، والشيخ حمود بن متروك البليهد، والشيخ عبدالله بن حمود العقلا، والشيخ إسماعيل بن بلال الدرعان؛ والشيخ عبدالعزيز محمد العقل؛ والشيخ عبدالعزيز الفوزان، والشيخ خليف المسلم السطام، والشيخ صالح إبراهيم المرشود، والأستاذ إبراهيم خليف السطام، والدكتور عارف بن مفضي المسعر، والأستاذ صالح بن متروك البليهد، والأستاذ عيد بن نعيم السهو، والأستاذ يوسف بن ناصر الحشاش، والشيخ عبدالرحمن بن عطا الشايع الكريع، والشيخ مصلح بن رغيلان المريح الشمري، والشيخ عمر بن رغيلان المريح الشمري، والشيخ أحمد قضيب القايد، والشيخ عيسى بن حمد العيساوي، والشيخ عقيل بن عطا الشايع الكريع، والشيخ فياض بن مسعر البرجس، والشيخ عواد بن راشد العويضة، والأستاذ زيد قاسم الخضر، والأستاذ ضيف الله بن منصور الباسط، والأستاذ ممدوح عبدالحميد السلطان، والأستاذ عبدالواحد مقيبل الحموان، والسيد مدالله علي الرويشد، والسيد صالح مهنا الخلف، والسيد محمد عبدالرحمن الصليع، والسيد خالد بن حسن البليهد، والشيخ عدوان زبن مفلح البراهيم، والسيد عبدالرحمن مسعد القفطان، والسيد خالد بن عقلا الحميد، والسيد علي عبدالله العليمي، والأستاذ محمد سلامة المعيقل، والسيد عيسى بن غازي الخضير، والسيد محمد بن عبدالله العتيق، والسيد عبدالعزيز بن عبدالله العتيق، والسيد عثمان العطية، والسيد حضيري بن جريد الرويلي
ومع تطور المنطقة والدولة عمومًا، فإن سبل نشر الثقافة والفكر قد تضاعفت. فالمدرسة الواحدة بمدرسها الوحيد، الأستاذ أحمد عبدالماجد , تحولت إلى مدارس متنوعة متعددة، وقفز عدد الدارسين في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية (بنين وبنات) وتضاعفت مرات عدة . ولئن كان وضع التعليم مطّرد التطور، فإن سبل نشر الثقافة الأخرى أيضًا تعددت وتنوعت، وإن لم يواكب تطورها القفزات النوعية الكبيرة التي شهدها تطور التعليم. فبالإضافة إلى العامل البشري، أصبحت وسائل الإعلام والاتصال المسموع، والمرئي، والمقروء، تؤدي دورًا رائدًا.
أ - الإذاعة والتلفزيون:
استقبلت منطقة الجوف البث الإذاعي منذ فترة مبكرة من انتشار وسائل الإعلام في المملكة. ويذكر الدكتور متروك الفالح أن أجهزة المذياع كانت متوفرة في المنطقة منذ نهاية الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، وإن كانت بأعداد محدودة. أما في الستينيات فقد زادت أعدادها، ثم تضاعفت في فترة السبعينيات بدرجة كبيرة. إذ يرى الفالح أنه مع نهاية عقد الستينيات الميلادية يندر أن تجد بيتًا من بيوت سكان مدينة سكاكا خاليًا من جهاز لاستقبال الإذاعات. ومع طفرة الاتصالات في تسعينيات القرن الماضي، فقد المذياع أهميته؛ لشيوعه في كل مكان، واحتلت مكانه أجهزة التلفزيون وأطباق الاستقبال العالمية. وقد وصل الإرسال التلفزيوني إلى منطقة الجوف في عام 1398هـ / 1978م حيث بدأ إرسال القناة الأولى للتلفزيون السعودي، ثم في عام 1405- 1406هـ / 1985-1986م بدأ بث القناة الثانية يصل إلى منطقة الجوف ومع حلول تسعينيات القرن الماضي بدأت القنوات الفضائية في الوصول إلى كل المناطق.
ب - الصحف والمجلات:
انتشر توزيع الصحف والمجلات وبدأت في الوصول إلى المنطقة بشكل ملحوظ مع نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي . على أن هذا لا يعني عدم وصولها قبل هذا التاريخ التقريبي. فمما لا شك فيه أن الصحف كانت تصل إلى المنطقة، لكن توزيعها اقتصر على فئات معينة. كما أن اطلاع أهل المنطقة على الصحف لم يقتصر على الصحف المحلية، وإنما امتد بسبب التواصل الجغرافي مع الخارج إلى صحف ومجلات غير محلية.
ومع التطور المستمر أصبح انتشار الصحف والمجلات المحلية منها والخارجية مسلّمة بديهية. حتى إن المرء ليراها معروضة في متاجر الغذاء فضلاً عن مواقعها المألوفة في دور توزيع الكتب ومواقع الوراقة. وبالإضافة إلى ذلك، ظهرت في منطقة الجوف منابر إعلامية وفعاليات ثقافية موسمية.