مثابة وأمنا

الكاتب: المدير -
مثابة وأمنا
"مثابة وأمنًا




كان السؤال من مُعتمرٍ قد حان وقتُ عودته لبلده، وما زال قلبه معلَّقًا بالبيت، ويشقُّ عليه تركه ليعود لأهله ووطنه، فتساءل: هل في القرآن الكريم أو السُّنة المطهَّرة ما يتحدَّث عن تعلُّق القلوب بالبيت وبالكعبة المشرَّفة بشكل خاص؟ فأنا من الزيارة الماضية ورُوحي وقلبي معلَّقان بالكعبة، ليس فقط شيء رُوحاني أو وجداني، لكنه عاطفي جدًّا لا يُمكنني وصفه!

 

وللوهلة الأولى لم أذكر آية أو حديثًا بهذا المعنى، لكن الإجابة التي وردت على ذهني وأجبتُه بها على السؤال كانت تدور حول معنًى استشعرته لحظتها وشغَلني طَوالَ اليوم؛ وهو أن الأمر متعلِّق بالفِطرة، وأن فطرتنا تنزع لخالقها، والكعبة المشرَّفة أكثر مكان على الأرض يذكِّرنا بالله عز وجل وبرسوله، ولأنه من أكثر الأوقات التي نتجرَّد فيها من الدنيا ومشاغلها وهمومها، فنَشعُر بالراحة ليس فقط من حالة الإرهاق العامة، لكن أيضًا هناك معنى أعمق هو حالة الرجوع للأصل وكأنَّنا خُلقنا للتوِّ، قلبٌ معلَّق بربه الذي لا يَعرف سواه؛ فليس لسواه عز وجل مكان في القلب وقتئذٍ.

 

فالراحة والسعادة درجات تَزيد وتنقص، وقد نجدها في بعض الأمور الدنيوية، لكن من جرَّب سعادة القرب من الله عز وجل والرجوع للفطرة التي فطَرَنا عليها، فلن يَعرف معنى آخرَ للسعادة، ولن يَختار عليها أيًّا مِن أمور الدنيا، فهو سبحانه خالق القلوب وأعلم بها، وهو وحده يملك سعادتها وشقاءها، ولا يُعقل أن تكون سعادتُها فيما يُغضبه سبحانه، وإن خُيِّل للبعض غير ذلك، فقد يكون من باب الفتنة والاختبار.

 

وبالتأمل في العبادات التي نَشعر بالراحة والسعادة أثناء أدائها، فإنها تتباين، ونجدها درجات بحسب حالتنا في أدائها: هل نؤدِّيها بإتقان وكما يجب؟ وهل أركانها مُستوفاة ويتحقَّق فيها معنى اليقين والخشوع والتعبد والتذلل لله عز وجل أوْ لا؟ بل إن حالة القلوب في أداء نفس العبادة تَزيد وتنقص، وتتجلى فيها رأفة الله بنا وإرادته الخير بنا، وكل قلب وحاله مع ربه سبحانه.

 

وعن الرُّوحانيات فإنها مُرتبطة بشعورنا بالسعادة، فنرى مثلًا في رمضان أنَّ الأرواح تسمو، والقلوب تهفو للطاعة، فتعُم السكينةُ وتَزيد السعادة، وبالتأمل أيضًا نجد رحمة الله عز وجل ولطفَه تتجلَّى في كون العبادة كلما زادت مشقةُ أدائها كانت السعادة فيها أكبر، والراحة النفسية فيها تَزيد، حتى تكون أحب لنا مما سواها، فلا نُفكِّر مُطلقًا في تعبِ ومشقَّة أدائها، بل العكس.

 

إذًا فالعبرة ليست بتعب الأجساد، لكنها الأرواح والقلوب، وهذا المعنى وبرغم أننا نلمسه في حياتنا فإنه يغيب عنا كثيرًا، فنَشعر بالتِّيه، ولا نجد علاجًا لهذا الإرهاق المُزمن، ونظنُّه خطأً مِن مشاغل الحياة التي تُرهق أجسادنا، لكنه في الحقيقة بسبب انشغال القلوب بالدنيا، وعدم رجوعها لفِطرتها ومأمنها ومستقرِّها بالقرب من الله عز وجل، وإلا فكيف كانت الصلاة قرةَ عين الصحابة يَرتاحون بها من مشاقِّ النهار الطويل؟ ولماذا نراها عبئًا ربما يَثقل على البعض؟ إننا لا نفكر مطلقًا أنَّ الراحة راحةُ الأرواح، ولا يشغلنا إلا هذه الأجساد الماديَّة، فنُرهقها وترهقنا أحوالُها في دائرة مُغلَقة لا تكفُّ عن الدوران.

 

وبعد فترة مِن التفكير والتأمُّل في هذه المعاني التي أخذتْ مِن تفكيري وقتًا، عُدت إلى السؤال من جديد، وإذ بآيات كريمات تفتَح لي معانيَ جديدة، وأبوابًا أخرى للتأمُّل عن تلك الحالة التي يَصعُب وصفُها عند رؤية الكعبة والمكوث في الحرم، تلك الحالة التي لا تُقارن ولا تتكرَّر أبدًا، سواء لمن تهوى نفسه وتشتاق إلى الزيارة، أو لمَن تكرَّرت زياراته، بل ولا يمكن توقُّعها، فهي حالة خاصة جدًّا بين القلوب وربها، وربما اختلفَت مع نفس الشخص في كلِّ مرَّة.

 

وفي الآيات الكريمات يقول الله تعالى:

• ? وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ? [البقرة: 125].

• ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ? [إبراهيم: 35].

• ? رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ? [إبراهيم: 37].

 

وبالرجوع إلى كتب التفاسير لتأكيد معنى هذه الألفاظ التي خصَّت البيت العتيق، نجد أن:

• مثابة: أي: مرجعًا يَثوبون إليه لحصول منافعهم الدنيوية والدينية، يتردَّدون إليه ثم يرجعون إلى أهليهم، ويعودون مرة أخرى؛ فعن ابن عباس قال: لا يَقضون منه وطرًا؛ يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.

• وأمنًا: أي: يأمن به كل أحد (جسديًّا ونفسيًّا)، فنعمة الأمن نعمة ماسة للإنسان، وتلمس حاجة القلوب في ظلِّ زخم هذه الأيام التي نعيشها، وعن أبي العالية قال: أَمْنًا مِن العدو.

• أفئدة: قال الشوكاني في فتح القدير: هي جمع فؤاد، وهو القلب، وعبر به عن جميع البدن.

 

ودعاء سيدنا إبراهيم الحليم العطوف، وقد استجابه الله عز وجل فجعل البيت أمنًا وأمانًا لأرواح وقلوب مَن يَثوبون إليه، وتهفو قلوبهم لزيارته، فكما اختار الزائرون طريقَ إبراهيم عليه السلام في الهدْي، واتَّبعوا النبي الأمي الأمين، فإن الله سبحانه يمنُّ عليهم بأمانِ أرواحهم وطمأنينة قلوبهم كلَّما عادوا إليه، ومن تحمَّل المشاق ليُعظِّم شعائر الله، فإن هذا لتقْوى جعلها الله في قلبه، وإنها لأعظم نعمة يمنُّ الله عز وجل بها على قلب مؤمن؛ ? ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ? [الحج: 32].

 

فهذه الراحة والطمأنينة هي جزاء مَن تحقَّقت فيه دعوة إبراهيم عليه السلام، واتَّبع وبذَلَ، وهفا فؤاده فتجرَّد مِن شواغل الدنيا، وترك بلده وأهله وماله وعياله، وهتَف: لبيك ربي، والشوق يَعتصرُه، ولم تزدْه الزيارة إلا حنينًا وارتباطًا ولهفة، فهو والله الحبُّ الأسمى، وحياة القلوب، وسموُّ الأرواح، وهي وحدها اللحظات التي يَحيا فيها الإنسان، وبها وحدها يُحسب العمر الذي عاشه حقًّا.


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook