مختارات من لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب

الكاتب: المدير -
مختارات من لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب
"مختارات من
لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فمن مصنفات الحافظ ابن رجب رحمه الله، كتابه الموسوم بــلطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف وهو كتاب كثير الفوائد، يسَّر الله الكريم فاخترتُ منه بعضها، أسأل الله أن ينفعني والقُرَّاء بها.

 

فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ:

• رقة القلب تنشأ عن الذكر، فإن ذكر الله يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه...القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.

 

• المواعظ سياط تضرب بها القلوب، فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التألم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر. وكان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا وعليهم السكينة والوقار.

 

• قال بعضهم: لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى القلب، فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى.

 

• قال بعض السلف: إن العالم إذا لم يرِدْ بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.

 

• المواعظ درياق الذنوب: فلا ينبغي أن يُسقي الدِّرْياقَ إلا طبيبٌ حاذقٌ معافى، فأما لديغ الهوى فهو إلى شرب الدِّرْياق أحوج من أن يسقيه لغيره.

 

وفي بعض الكتب السالفة: إذا أردت أن تعظ الناس فعظ نفسك فإن اتعظت وإلا فاستحي مني. لما حاسب المتقون أنفسهم خافوا من عاقبة الوعظ والتذكير.

 

ومع هذا كله فلا بد للإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ والتذكير، ولو لم يعظ الناسَ إلا معصومٌ من الزلل لم يعظ الناسَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ؛ لأنه لا عصمة لأحد بعده:

لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب
فمن يعظ العاصين بعد محمد

 

قيل للحسن: إن فلانًا لا يعظ، ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟ ودَّ الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحدٌ بمعروف ولم ينه عن منكر.

 

خطب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يومًا، فقال في موعظته: إني أقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه.

 

• قال مطرف: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه.

 

• كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة الصرف في إنفاق المال...فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد وهي تسأل الناس.

 

• عجبًا لمن رأى الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟!

 

• أهلك إبليس العجب بنفسه؛ ولذلك قال: ? أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ? [الأعراف: 12] وكملت فضائل آدم باعترافه على نفسه: ? قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ? [الأعراف: 23].

 

• قال بعض السلف: آدم أخرج من الجنة بذنب واحد. وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة!

 

• العجب ممن عرف ربه ثم عصاه، وعرَف الشيطان ثم أطاعه، ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ? [الكهف: 50].

 

• علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردِّها أن توصل بمعصية. ما أحسن الحسنة بعد الحسنة! وأقبح السيئة بعد الحسنة! ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة! سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوَّذوا من الحور بعد الكور. كان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك.

 

• قال بعض الملوك لأبي حازم: كيف القدوم على الله تعالى؟ فقال أبو حازم: أما قدوم الطائع على الله تعالى فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما قدوم العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده الغضبان.

 

• ما قدَّم أحد حقَّ الله على هوى نفسه وراحتها إلا رأى سعادة الدنيا والآخرة، ولا عكس ذلك فقدم حظ نفسه على حق ربه إلا ورأى الشقاوة في الدنيا والآخرة.

 

• قال أبو حازم: كل ما يشغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو عليك مشؤوم.

فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله.

 

• العدوى التي تهلك مَنْ قارَبَها هي المعاصي، فمن قاربها وخالطها وأصرَّ عليها هلك، وكذلك مخالطة أهل المعاصي، ومن يحسن المعصية ويزينها ويدعو إليها من شياطين الإنس، وهو أضر من شياطين الجن. قال بعض السلف: شيطان الجن نستعيذ بالله منه فينصرف، وشيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية. فالعاصي مشؤوم على نفسه، وعلى غيره، فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس، خصوصًا من لم ينكر عليه عمله. فالبعد عنه متعين. وكذلك أماكن المعاصي وعقوباتها يتعين البعد عنها والهرب منها خشية نزول العذاب.

 

• احذروا الذنوب فإنها مشؤومة، عواقبها ذميمة، وعقوباتها أليمة، والقلوب المحبة لها سقيمة، السلامة منها غنيمة، والعافية منها ليس لها قيمة، والبلية بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة.

 

• الأعمال كلها يفرغ منها، والذكر لا فراغ له ولا انقضاء، والأعمال تنقطع بانقطاع الدنيا ولا يبقى منها شيء في الآخرة، والذكر لا ينقطع. المؤمن يعيش على الذكر ويموت عليه، وعليه يبعث.

 

وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

• مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح والجسد جميعًا، فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته، واشتدت ألفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد، فلا يتفارقان إلا بجهد شديد وألم عظيم، ولم يذق ابن آدم في حياته ألمًا مثله، وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ?[آل عمران: 185].

 

قال الربيع بن خثيم: أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله.

 

ويتزايد الألم بمعرفة المحتضر بأن جسده إذا فارقته الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام ويبليه التراب حتى يعود ترابًا، وأن الروح المفارقة له لا تدري أين مستقرها، هل هو في الجنة أو النار؟ فإن كان مصرًّا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار فتتضاعف بذلك حسرته وألمه، وربما كشف له مع ذلك عن مقعده من النار فيراه، أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره، وهذا هو المراد بقول الله عز وجل: ? وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ? [القيامة: 29] على ما فسر به كثير من السلف، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، فلا تسأل عن سوء حاله، وقد سمى الله تعالى ذلك سكرة؛ لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبًا؛ قال الله تعالى: ? وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ? [ق: 19].

ألا للموت كأس أيُّ كاسِ
وأنت لكأسه لا بد حاسي
إلى كم والممات إلى قريبٍ
تُذَكِّرُ بالموت وأنت ناسي

 

* قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت، فقال: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) يعني: الموت.

 

وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد منها:

أنه يحث على الاستعداد له قبل نزوله، ويقصر الأمل، ويرضي بالقليل من الرزق، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، ويهون مصائب الدنيا، ويمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.

 

قال أبو الدرداء: كفى بالموت واعظًا، وكفى بالدهر مفرقًا، اليوم في الدور وغدًا في القبور.

 

غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب، والموجب لها طول الأمل.

 

• أول ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة: ? إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ? [النصر: 1] يعني: فتح مكة، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: ((سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه))، فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم؟ قال: ((إن ربي أخبرني أنني سأرى علمًا في أمتي إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره، وقد رأيته)) ثم تلا هذه السورة. إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى، فكيف يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير؟!

 

من لم ينذره باقتراب أجله وحْيٌ، أنذره الشيب وسلب أقرانه بالموت.

 

عن وهب قال: ينادي منادٍ: أبناء الستين، عدوا أنفسكم في الموتى.

 

قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفنًا.

وإن امرأ قد سار ستين حجة
إلى منهل من ورده لقريب

 

* قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة.

 

قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ.

 

فقال له الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

فقال الفضيل: من علم أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جوابًا.

 

فقال له الرجل: فما الحيلة؟

قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.

 

• في المسند وصحيح ابن حِبَّان عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر فقال: ((إن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة)) قال: فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة.

 

لما قويت معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه ازداد حبه له وشوقه إلى لقائه، فلما خير بين البقاء في الدنيا وبين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا والبقاء فيها.

 

• قالت عائشة: كان عنده سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفه وقال: ((ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه)) ثم تصدَّق بها كلها. فكيف حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة؟! وما ظنه بربه؟!

 

• كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بقلوب المؤمنين؟! لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه وصاح كما يصيح الصبي، فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن عند بكائه، فقال: ((لو لم أعتنقه لحنَّ إلى يوم القيامة)) كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، وقال: هذه خشبة تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسم فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.

 

ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب، خصوصًا من كانت رؤيته حياة الألباب!

 

• يا أبناء العشرين، كم مات من أقرانكم وتخلفتم!

يا أبناء الثلاثين، أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم!

يا أبناء الأربعين، ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم!

يا أبناء الخمسين، تنصفتم المائة وما أنصفتم!

يا أبناء الستين، أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون، لقد أسرفتم؟!

يا من كلما طال عمره زاد ذنبه! يا من كلما ابيضَّ شعره بمرور الأيام اسودَّ بالآثام قلبه!

 

• يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسِّنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا، يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور، ويسمع الآيات والسور ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحلية فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور: ? فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? [الحج: 46] ? وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ? [النور: 40].

 

المنافسة فيما يقرب من الآخرة:

• قال تعالى: ? لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ?[التوبة: 91، 92] نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى غزوة تبوك، فطلبوا منه أن يحملهم، فقال لهم: ((لا أجد ما أحملكم عليه)) فرجعوا وهم يبكون حزنًا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: هذا والله بكاء الرجال، بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تُراقُ فيها الدماء في سبيل الله، وتُنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف، فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا وشهواته العاجلة فذلك شبيه ببكاء الأطفال والنساء على فقد حظوظهم العاجلة.

 

• لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: ? فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ?[البقرة: 148]? سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ?[الحديد: 21] فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملًا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له، فيحزن لفوات سبقه، فكان تنافسهم في درجات الآخرة كما قال تعالى: ? وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ?[المطففين: 26] ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.

 

• قال الحسن: إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل. قال عمر بن عبدالعزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة: ليس السابق اليوم من سبق به بعيره، إنما السابق من غفر له.

 

• كان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال عمر: ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقنا أبو بكر. وكان سباقًا بالخيرات، ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر.

 

• صاحب الهمة العالية والنفس الشريفة التوَّاقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية، وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزكية التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه، ولو تلفت نفسه في طلبه، ومن كان في الله تلفه كان على الله خلفه، قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: كرامته أريد.

وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام

 

• قيمة كل إنسان ما يطلب، فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منها، فإن الدنيا دنية، وأدنى منها من يطلبها، وهي خسيسة، وأخس منها من يخطبها، قال بعضهم: القلوب جوالة؛ فقلب يجول حول العرش، وقلب يجول حول الحش، الدنيا كلها حش وكل ما فيها من مطعم يؤول إلى الحش، وما فيها من أجسام ولباس يصير ترابًا.

 

العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه ويبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه، فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته إن حصل له العفو منازل السابقين. قال بعض السلف: هب أن المسيء عُفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين.

 

• العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات ونيل علو الدرجات، والجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات وتوصل به إلى اللذات المحرمات، قال الله تعالى حاكيًا عن قارون: ? فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ?[القصص: 79، 80] إلى قوله: ? تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ? [القصص: 83].

 

• من فاته الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن عدو أن يقاتله، فليكثر من سبحان الله وبحمده ...واعلم أن من عجز عن عمل خير، وتأسَّف عليه، وتمنَّى حصوله، كان شريكًا لفاعله في الأجر.

 

• لما كان الجهاد أفضل الأعمال ولا قدرة لكثير من الناس عليه، كان الذكر الكثير الدائم يساويه ويفضل عليه، وكان العمل في عشر ذي الحجة يفضل عليه، إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع منهما بشيء.

 

• أفضل الأعمال: سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم. ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين. وإرادة الخير لهم ونصيحتهم. وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون ? رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ? [الحشر: 10] قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة.

 

تمني الموت:

خرج الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة)).

 

تمني الموت يقع على وجوه:

منها: تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد، فيُنهى حينئذٍ عن تمني الموت، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)).

 

ووجه كراهته في هذه الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلًا للاستراحة من ضره، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت، فلعله يصير إلى ضر أعظم من ضره، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.

 

ومنها: تمنيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذٍ، وقد تمناه ودعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة وأئمة الإسلام، وفي حديث المنام: ((وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)).

 

ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتنامًا لحصولها، فيجوز ذلك أيضًا، وسؤال الصحابة الشهادة وتعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهود.

 

ومنها: تمني الموت لمن وثق بعمله شوقًا إلى الله عز وجل، فهذا يجوز أيضًا، وقد فعله كثير من السلف. قال أبو الدرداء: أُحِبُّ الموت اشتياقًا إلى ربي. وقال أبو عنبسة الخولاني: كان من قبلكم لقاء الله أحبّ إليه من الشهد. وقال بعضهم: طال شوقي إليك فعَجِّل قدومي إليك.

 

وقد دل على جواز ذلك قول الله عز وجل: ? قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [البقرة: 94] وقوله: ? قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ?[الجمعة: 6] فدل ذلك على أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم: ? وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ?[الجمعة: 7] فدل ذلك على أنه إنما يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها، كما قال بعض السلف: ما يكره الموت إلا مريب. وفي حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسألك لذة النظر إلى وجهك وشوقًا إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة)) فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت.

 

ومنها: تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة، فقد اختلف العلماء في كراهته واستحبابه، وقد رخص فيه جماعة من السلف، وكرهه آخرون.

 

وقد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين:

إحداهما: أن هول المطلع شديد...وهو ما يكشف للميت عند حضور الموت من الأهوال التي لا عهد له بشيء منها في الدنيا، من رؤية الملائكة، ورؤية أعماله من خير أو شر، وما يبشر به عند ذلك من الجنة والنار، هذا مع ما يلقاه من شدة الموت وكربه وغصصه. في الحديث الصحيح: ((إذا حملت الجنازة وكانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق)).

 

قال الحسن: لو علم ابن آدم أن له في الموت راحة وفرحًا لشق عليه أن يأتيه الموت لما يعلم من فظاعته وشدته وهوله، فكيف وهو لا يعلم ماله في الموت: نعيم دائم أو عذاب مقيم.

 

بكى النخعي عند احتضاره وقال: أنتظر ملك الموت، لا أدري يبشرني بالجنة أو النار.

 

فالمتمني للموت كأنه يستعجل حلول البلاء، وإنما أمرنا بسؤال العافية، وسمع ابن عمر رجلًا يتمنى الموت فقال: لا تتمنَّ الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية. قال إبراهيم بن أدهم: إن للموت كأسًا لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله كان يتوقعها. وبكى الحسن البصري عند موته وقال: نُفيسة ضعيفة، وأمر مهول عظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان حبيب العجمي عند موته يبكي ويقول: إني أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قط، وأسلك طريقًا ما سلكته قط، وأشرف على أهوال ما شاهدتها قط.

 

فهذا كله من هول المطلع الذي قطع قلوب الخائفين.

 

ومن هول المطلع ما يكشف للميت عند نزوله قبره من فتنة القبر، فإن الموتى يفتنون بالمسألة في قبورهم...وما يكشف لهم في قبورهم عن منازلهم من الجنة والنار، وما يلقون من ضمة القبر وضيقته وهوله وعذابه إن لم يُعافِ الله من ذلك.

 

والعلة الثانية: أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا، فمن سعادته أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة إليه والتوبة من ذنوبه السالفة، والاجتهاد في العمل الصالح، فإذا تمنى الموت انقطع عمله الصالح، فلا ينبغي له ذلك.

 

في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب))، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدْعُ به قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا)).

 

فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرًا، ومن كان كذلك فالحياة خير له من الموت، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) خرجه مسلم، وفي الترمذي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله)) قيل: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)).

 

قيل لشيخ كبير: تحب الموت؟ قال: لا. قيل: ولِمَ؟ قال: ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، فإذا قمتُ قلت: بسم الله، وإذا قعدتُ قلتُ: الحمد لله، فأنا أحبُّ أن يبقى لي هذا. وقيل لشيخ آخر: ما بقي مما تحب له الحياة؟ قال: البكاء على الذنوب.

 

ولهذا كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت، وبكى معاذ عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، وبكى عبدالرحمن بن الأسود عند موته وقال: وأسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات. وبكى يزيد الرقاشي عند موته وقال: أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار. ثم بكى.

 

إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة فكيف يكون حال المسيء؟!

 

قال بعض السلف: كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة.

 

فصل: كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة

• ما رأى العارفون شيئًا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير وعافية.

 

كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال ابن مسعود، وتلا قول الله تعالى: ? أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ?[الفرقان: 24].

 

• الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم، مع البقاء في الدارين من غير موت، وخلق دارًا معجلة للأعمال وجعل فيها موتًا وحياةً، وابتلى عباده فيها بما أمرهم به ونهاهم عنه، وكلفهم فيها الإيمان بالغيب، ومنه الإيمان بالجزاء والدارين المخلوقتين له... وأقام علامات وأمارات تدل على وجود داري الجزاء، فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة.

 

وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكر بألم النار، وجعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية.

 

فمنها ما يذكر بالجنة من زمان ومكان:

أما الأماكن: فخلق الله بعض البلدان كالشام وغيرها، فيها من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة.

 

وأما الأزمان: فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة وطيبها، وكأوقات الأسحار فإن بردها يذكر ببرد الجنة.

 

ومنها ما يذكر بالنار، فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه، وبما فيها من الآلام والعقوبات من أماكن وأزمان وأجسام وغير ذلك.

 

أما الأماكن: فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم وسمومها، وبعض البقاع يذكر بالنار كالحمام، قال أبو هريرة: نعم البيت الحمام، يدخله المؤمن فيزيل به الدرن، ويستعيذ بالله فيه من النار.

 

وأما الأزمان: فشدة الحر والبرد يذكر بما في جهنم من الحر والزمهرير.

أبواب النار مغلقة وتفتح أحيانًا، فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة، ولذلك يشتد الحر حينئذٍ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم.

 

وأما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة: منها: الشمس عند اشتداد حرها.

وينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة ويزداد في حرها، وينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار، فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر.

 

وقد تحدث أحيانًا حوادث غير معتادة تذكر بالنار؛ كالصواعق والريح الحارة المحرقة للزرع، قال الله تعالى: ? وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ? [الرعد: 13].

 

ومما يدل أيضًا في الدنيا على وجود النار الحُمى التي تصيب بني آدم، وهي نار باطنة، فمنها نفحة من نفحات سمومها، ومنها نفحة من نفحات زمهريرها.

 

ومن أعظم ما يذكر بنار جهنم النار التي في الدنيا، قال الله تعالى: ? نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ?[الواقعة: 73] يعني: أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكر بنار جهنم.

 

مرَّ ابن مسعود بالحدادين وقد أخرجوا حديدًا من النار فوقف ينظر إليه ويبكي. كان ابن عمر وغيره من السلف إذا شربوا ماءً باردًا بكوا، وذكروا أمنية أهل النار وأنهم يشتهون الماء البارد وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة:? أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ?[الأعراف: 50] فيقولون لهم: ? إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ?[الأعراف: 50].

 

•كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة، ودليل عليه، فنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد مُحُولها ويبسها في الشتاء، وإيناع الأشجار واخضرارها بعد كونها خشبًا يابسًا يدل على بعث الموتى من الأرض، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضع كثيرة، قال الله تعالى:? وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ? [الحج: 5-7].

 

•تدقيق النظر والفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال قدرته ورحمته، فتزداد القلوب هيمانًا في محبته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ? وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[الأنعام: 99].

 

• الربيع أطيب فصول السنة، وهو يذكر بنعيم الجنة وطيب عيشها، فينبغي أن يحث المؤمن على الاستعداد لطلب الجنة بالأعمال الصالحة... وزمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده، وكمال قدرته، ويشوق إلى طيب مجاورته في دار كرامته، كما قال ابن سمعون في وصف الربيع: أرضه حرير، وأنفاسه عبير، وأوقاته كلها وعظ وتذكير.

 

• ومن وجوه الاعتبار في النظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل الربيع بما ساق إليها من قطر السماء، أنه يرجى من كرمه أن يحيي القلوب الميتة بالذنوب وطول الغفلة، بسماع الذكر النازل من السماء، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ? أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ? [الحديد: 16] إلى قوله: ? اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ? [الحديد:17] ففيه إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر، فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر، عسى لمحة من لمحات عطفه، ونفحة نفحات لطفه، وقد صلح من القلوب كل ما فسد.

عسى فرج يأتي به الله إنه
له كل يوم في خليقته أمر
إذا اشتد عسر فارج يسرًا فإنه
قضى الله أن العسر يتبعه يسر

 

عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحيي القلوب الميتة بالذكر، عسى نفحة من نفحات رحمته تهب، فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.

 

ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها:

كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم، وبيانه من وجهين:

أحدهما: أن من كان عالمًا بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه، كما قال بعضهم: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه.

 

والثاني: أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلًا باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض، فإنه يتعجل الإثم والخزي ويفوته عز التقوى وثوابها ولذة الطاعة، وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الدِّرْياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهل.

 

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ? يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ? [النساء: 17] قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أفضل أوقات التوبة، وهو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذٍ من العمل الصالح؛ ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.

 

مات كثير من المصرِّين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم مباشرون للمعاصي فكان ذلك خزيًا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة، وكثيرًا ما يقع هذا للمصرِّين على الخمر المدمنين لشربها.

 

الناس في التوبة أقسام:

فمنهم: من لا يوفق لتوبة نصوح بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرًّا عليها، وهذه حالة الأشقياء.

 

وأقبح من ذلك: من يسر له في أول عمره عمل الطاعات ثم ختم له بعمل سيئ حتى مات عليه، ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى.

 

كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق.

 

قال بعضهم: ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا.

 

وقسم:يفنى عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه.

 

الأعمال بالخواتيم...وهؤلاء: منهم:

من يوقظ قبل موته بمدة يتمكن فيها من التزود بعمل صالح يختم به عمره. ومنهم: من يوقظ عند حضور الموت فيوفق لتوبة نصوح يموت عليها.

 

وبقي ههنا قسم آخر: وهو أشرف الأقسام وأرفعها: وهو من يفنى عمره في الطاعة ثم ينبه على قرب الأجل، ليجد في التزود ويتهيأ للرحيل بعمل يصلح للقاء، ويكون خاتمة للعمل. قال ابن عباس: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ? إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ? [النصر: 1] نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة.

 

من أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر؛ لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين، قال الله تعالى: ? وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? [الحجرات: 11]

 

تأخير التوبة في حال الشباب قبيح، وفي حال المشيب أقبح وأقبح.

 

التوبة التوبة قبل أن يصل إليكم من الموت النوبة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة.

 

الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة. ما أحسن قلق التواب! ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب!

 

من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت، فقبيح منه الإصرار على الذنب.

 

أيها العاصي...إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة قالت له ملائكة الرحمة: مرحبًا وسهلًا، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلًّا.

 

يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو، يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو.

 

• يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام لا في شهر حلال ولا في شهر حرام، يا من هو في الطاعات إلى وراء، وفي المعاصي إلى قدَّام، يا من هو في كل يوم من عمره شرٌّ مما كان قبله من الأيام، متى تستفيق من هذا المنام؟ متى تتوب من هذا الإجرام؟

 

• يا من أنذره الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام، أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن والإسلام؟... الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة...المبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحًا فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يصير المرء مرتهنًا في حفرته بما قدم من عمل.

 

• يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين، يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين، يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين والسبعين! ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين؟ يا من ذنوبه بعدد الشفع والوتر، أما تستحي من الكرام الكاتبين؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين؟ يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري، أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين؟


"
شارك المقالة:
38 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook