مراعاة أحوال المدعوين العقلية والذهنية

الكاتب: المدير -
مراعاة أحوال المدعوين العقلية والذهنية
"مراعاة أحوال المدعوين العقلية والذهنية

 

الدين الإسلامي يركز على إقناع الناس بالإسلام، لا على إجبارهم، ويعتمد في حملهم على الإيمان بالله ورسوله، اعتماداً أساسياً على استثارة تفكيرهم، وإيقاظ عقولهم، ويدعوهم بشتى الوسائل إلى التفكر في خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسهم وما حولهم، ليصلوا من وراء ذلك إلى معرفة الخالق، وإلى تمييز الحق من الباطل، وقد تضافرت النصوص القرآنية التي تحض على استخدام العقل، وتحرير الفكر، كقوله تعالى: ? أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ? [الروم: 8] [1]، وقوله تعالى: ? قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ? [يونس: 101] [2].[3]

 

ومن مميزات الدعوة الإسلامية، أنها تتلاءم مع التفاوت الطبيعي بين عقول الناس وتفكيرهم، وتنسجم مع عقول الناس وتراعي الفروق الفردية بينهم، فتخاطب كل أناس بما يتناسب مع مستواهم العقلي، قال الإمام الغزالي: من وظائف المعلم أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله، فينفره، أو يخبط عليه عقله، فيبث إليه من الحقيقة ما يستقل بفهمها[4].

 

ومن الدروس المستنبطة في مراعاة أحوال المدعوين العقلية في هذه الغزوة ما يلي:

[1] الحرص على تنوع أساليب الخطاب تبعاً لمستوى الثقافة عند المدعو، فالدعوة الإسلامية موجهة للناس جميعاً، على اختلاف عصورهم وطبائعهم ومستوى تفكيرهم، وأنماط حياتهم مما يستلزم مراعاة نوعية خاصة من الخطاب تناسب كل جماعة[5].

 

والداعية إذا تأمل من حوله وجد أن أمامه ساحتين: ساحة ترفرف عليها أعلام الهداية، ويؤمن أصحابها بالإسلام عقيدة وشريعة، ويلتزمون به سلوكاً.

 

وساحة بعيدة كل البعد عن الإسلام، أو قد انطبع الإسلام في أذهانها بصورة مشوشة محرفة، كما هو الحال خارج المجتمعات الإٍسلامية.

 

وهذا الواقع يفرض على الداعية أن يصوغ خطابين متنوعين:

1- خطاباً يتوجه به إلى المدعوين في الساحة الإسلامية، يركز فيه على ضرورة الالتزام والتمسك بتعاليم الإسلام، وضرورة المبادرة إلى الإحسان، والتحلي بالإيجابية، وإتقان الأعمال الدعوية.. الخ.

 

2- وخطاباً آخر يتوجه به إلى الساحة الغير مسلمة أو إلى المشوشة، يركز فيه على محاسن الإسلام، ويرد على الشبه المثارة حوله، وينبغي أن تكون العناصر العقلانية في الخطاب الثاني أقوى، أما في الخطاب الأول فيشتمل على كل العناصر، لكن يكون العنصر العاطفي فيه ظاهراً[6].

 

[2] الوضوح في عرض الدعوة الإسلامية وبيان مضمونها لحديثي الإسلام، وتبيين أصوله. ورغم أن القرشيين قد يعلمون بعض مبادئ الإسلام بسبب اختلاطهم بالمسلمين، لكنه صلى الله عليه وسلم يوضحها ويبينها البيان الشافي لعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه حين قال له: ( يا محمد، إن هذه أخبرتني- يعني زوجه أم حكيم- أنك أمنتني، فقال: (( صدقت، فأنت آمن))، قال عكرمة: فإلام تدعونا يا محمد؟ قال: (( أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل، حتى عد خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق، وأمر حسن جميل، وقد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا براً. ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: يا محمد، علمني خير شيء أقوله. فقال: (( تقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.. إلخ)).[7]

 

[3]الاهتمام بتعليم المدعوين حدِيثِي الإسلام، وخصهم برعاية مميزة، لأنهم بعد إسلامهم كالأرض العطشى المهيأة للغيث، فالداعية لا يكتفي بدعوة الناس إلى الحق، بل لا بد من تربية وتعليم الذين استجابوا لهذا الحق، ومن ذلك:

ختيار رجل من علماء الصحابة ومن أفاضلهم معلما لأهل مكة، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف معاذ بن جبل في مكة ليفقه أهلها، ويعلمهم القرآن والسنة[8]، فاختار لهم رجلا قال فيه ذات يوم: ((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل))[9].

 

الإعادة والتكرار لأحكام الشريعة التي ثبتت قبل الفتح، تعليماً لأهل مكة، ومن ذلك تحريمه الخمر وبيعه، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح وهو بمكة: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام))[10]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:( ويحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك، ثم أعاده صلى الله عليه وسلم، ليسمعه من لم يكن سمعه)[11].

 

الإشفاق على المخطئ، وعدم مقابلة خطأه بالتعنيف والقهر، أو التشنيع عليه، والسخرية منه، فإن هذا مما يؤدي إلى إذلال نفسيته، وتحطيم شخصيته، وقد يؤدي إلى إصراره على الخطأ، وتماديه في الباطل تسويغا لخطأه[12]، بل يتجاوز عما يحصل منه من قصور في الفهم، أو تأخر في التخلص من رواسب الجاهلية، التي كانت مستقرة في قلبه وعقله، مع التنبيه والإرشاد بالشكل المناسب لظروف المخطئ، والنظر لدوافعه إلى الخطأ، وقد حدث من الطلقاء ما أظهر بقايا الرواسب القديمة الجاهلية في نفوسهم.

 

ومثال ذلك حين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنين، ومروا بشجرة ذات أنواط، فطلبوا منه أن يجعل لهم مثلها، فلم يشدد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في التعنيف، بل بين لهم الحق برفق وحكمة، فقال لهم: (( سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده، لتركبن سنة من قبلكم))[13]، (ولا شك أن طلبهم يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص رغم إسلامهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك، وحذرهم من ذلك، ولم يعاقبهم أو يعنفهم لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام)[14].

 

الحرص على إقناع العقول بالحق قبل إلزام الناس به، وذلك بعدم إكراههم على الإسلام، بل متى اقتنعت عقولهم به وانشرحت صدورهم للدخول فيه، أقبلوا طائعين مختارين، فدعوة الإسلام ليست إرهاقا للعقول بالمفاهيم، ولا إثقالا على النفوس بالمشاعر، بل هي تقويم للعقل، للإبقاء على صالح رأيه، وإلغاء الفاسد من هواه، ودين الإسلام دين يفتح نوافذ الفكر الإنساني، فليس من حكمة الدعوة، إنكار عقل الإنسان، وملؤه بالتعاليم قبل اقتناعه بأساس الإسلام، أو شحنه بالواجبات والمحرمات، قبل تأسيس عقيدة الإيمان الدافعة لطاعة الله في عقله وقلبه[15].

 

[4] مراعاة حالة المخاطب الذهنية، ومستوى الذكاء والفهم لديه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب أحد حكماء قريش وأصحاب الرأي والعقل فيهم بأسلوب الإيحاء، كقوله عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه: (( من لقي سهيل بن عمرو، فلا يحد النظر إليه، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام))[16]

 

ويدعو لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بقوله: (( اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقهِ العذاب))[17]، وعند الإمام الترمذي أنه قال له:(( اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به))[18].

 

كذلك يخاطب العامي الخائف بما يسهل عليه فهمه، وبشكل مباشر، فيقول لرجل أحضر إليه وقد أخذته الرعدة: ((هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد))[19].




[1] سورة الروم جزء من آية 8.

[2] سورة يونس جزء من آية 101.

[3] بتصرف، التشريع الجنائي الإسلامي 1/ 29- 30.

[4] بتصرف، الإحياء 1/ 57.

[5] بتصرف، الدعوة إلى الله على ضوء الكتاب والسنة ص 133.

[6] بتصرف، مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ص 360-361. وللاستفادة انظر الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة ص 88-89.

[7] منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال 5/ 243.

[8] انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 4/ 148، والسيرة الحلبية 3/ 59.

[9]سنن الترمذي كتاب المناقب باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم 5/ 665 ح 3791، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[10] سبق تخريجه ص 273.

[11] فتح الباري 4/ 425 ح 2236.

[12] بتصرف، الرسول والعلم ص 121.

[13] سبق تخريجه ص 179.

[14] السيرة النبوية الصحيحة 2/ 497.

[15] بتصرف، الدعوة إلى الله على ضوء الكتاب والسنة ص 140.

[16]سبق تخريجه ص 437، وانظر السيرة الحلبية 3/ 56.

[17] مسند الإمام أحمد عن العرباض بن سارية 4/ 127. والسيرة الحلبية 3/ 44.

[18] سنن الترمذي كتاب المناقب باب مناقب لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما 5/ 687 ح 3842، وقال هذا حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 236 ح 3018، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 615 ح 1969.

[19] سبق تخريجه ص 315.


"
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook