مراعاة القدرات والمواهب في الدعوة الإسلامية

الكاتب: المدير -
مراعاة القدرات والمواهب في الدعوة الإسلامية
"مراعاة القدرات والمواهب في الدعوة الإسلامية




يكون ذلك باتباع ما يلي:

(1) مراعاة الفروق الفردية التي تميز كل إنسان عن الآخر، من الفهم والذكاء، وإتقان العمل واتساع الأفق، وغير ذلك، مما يلزم الداعية أن يراعيه ويهتم به أثناء دعوته.

 

وذلك ابتداء بملاحظة تفاوت الناس في إدراك إعجاز القرآن، ومعرفة وجه دلالته، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجاً عليهم بالقرآن، ولم يلزمهم أن يصدقوه تقليداً، والسابقون الأولون إلى الإسلام لم يقلدوه، وإنما دخلوا فيه على بصيرة، فمن كانت بصيرته أقوى، كان إلى القبول منه أسبق، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، أو اشتبه عليه بعض شروط المعجزات، كان إلى القبول أبطأ، حتى تكاملت له أسباب ذلك واجتمعت له بصيرته[1].

 

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب، ليسوا فيها على وزن واحد، ورفع بعضهم فوق بعض، كما أنهم في الدنيا كذلك، فليس من له مزيد فهم في الشريعة كمن لا مزيد له، لكن الجميع جار على أمر مشترك.

 

والاختصاصات فيها هبات من الله، لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك، بل يدخلون مع غيرهم فيها، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك بعينه، فإن امتازوا بمزيد الفهم، لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك[2].

 

ولذلك كانت أمور الشريعة- التي لم يوضع لها حد معين يوقف عنده- موكولة إلى نظر المكلف- المدعو - بها وقدرته، فكل أحد مطلوب منه على قدر إدراكه، فمن أدرك أمراً قريباً، فهو المطلوب منه، ومن أدرك فيها أمراً هو فوق الأول فهو المطلوب منه.

 

وقد يتفاوت الأمر في الالتزام بالشريعة، حسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته: فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه، لا يؤمر بها بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا، فالأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية، ربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده، بخلاف من كان له بذلك عهد، ومن هنا كان نزول القرآن نجوماً في عشرين سنة، ونزلت الأحكام التكليفية فيها شيئاً فشيئاً، لئلا تنفر منها النفوس دفعة واحدة[3].

 

ولذلك راعى النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة الذين لم يكن لهم سابق علم بتفصيل الإسلام وتكاليفه، بخلاف من قدم معه من المسلمين، فصب جل اهتمامه على توضيح أمور العقيدة، التي يجب إدراكها، ويشترك معظم الناس في فهمها، وأجَّل تفاصيل الشريعة التي قد لا يدرك بعضها إلا الخواص أو من له سابق علم وإطلاع على أحكام الإسلام.

 

(2) ومن مراعاة قدرات المدعوين ومواهبهم، كان القيام ببعض الأمور الشرعية على وجه الكفاية، فمواهب الناس مختلفة ومتفاوتة، فهذا قد تهيأ للعلم، وهذا للإدارة والرئاسة، وذلك للصناعة أو للتجارة، وهذا للصراع والمجاهدة، والواجب أن يُربى كل امرئ على ما تهيأ له، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه، ومالت نفسه إليه[4].

 

وفي كلام الإمام الشاطبي توضيح للأمر وتوجيه للدعاة، فيقول رحمه الله: (إن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة...? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ? [5]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم. فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح، وكافة ما تدرأ به المفاسد...

 

وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه، ويبرّز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة، فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها... فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظرين- والمقصود بهم في هذا المبحث الدعاة إلى الله- فيهم الالتفات إلى تلك الجهات، فيراعونهم بحسبها، ويراعونها إلى إن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها، ويحرضونهم على الدوام فيها، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط، ثم يخلي بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم، ليكونوا من أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية... فعند ذاك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية)[6].

 

فمجموع المدعوين كمجموعة من الناس، تسير في طريق مشترك، وقد يقف بعضهم عند المرحلة الأولى، ويعجز عن السير إلى المرحلة الثانية، فيقف عند فرض كفائي، ومن به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى المرحلة الثانية، وقد يقف عندها، ومن تسامت به مواهبه وقدراته حتى يقف عند المرحلة الثالثة، فقد وقف عند فرض كفائي آخر، فحيث وقف السائر وعجز عن السير، فقد وقف على مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية[7].

 

وهذا من عدل الإسلام حيث جعل سبحانه النتائج متكافئة مع الأعمال، وبمقدار جهود الشخص وإنتاجه يكون جزاؤه[8].

 

(3) من مهمات الدعاة ملاحظة هذه الميول والقدرات، ورعايتها باعتدال والابتعاد عن تهميشها وإهمالها، فالموهبة التي يؤتاها الإنسان إذا لم تنمّ وتطور، فقد يصيبها الضمور والضعف، وذلك خسارة للمجتمع الإسلامي.

 

وتظهر من أحداث الفتح رعاية أصحاب المواهب، كما لاحظ النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة رضي الله عنه رغم صغر سنه ولكن قدرته على حفظ الأذان وترديده وجودة صوته وأدائه، دفعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى تعليمه بنفسه، ثم تعيينه مؤذنا لأهل مكة.

 

كذلك ما حدث مع عمرو بن سلمة رضي الله عنهما، حين استغل قوة حفظه وذاكرته، فكان أحفظ قومه لكتاب الله، فلم يهمله قومه بل أقاموه إماما لهم رغم صغر سنه، فكان لا يحضر معهم الصلاة إلا قدموه لإقامتها[9].

 

ورعى النبي صلى الله عليه وسلم موهبة خالد بن الوليد رضي الله عنه العسكرية، والتي ابتدأت مع المسلمين في غزوة مؤتة، فعينه على أحد أجنحة الجيش الفاتح، ثم أرسله على رأس أحد السرايا المحطمة للأصنام، مع مراعاة أنها موهبة تحتاج إلى توجيه وتشذيب، كي لا تجنح وتميل، فصدر منه صلى الله عليه وسلم النهي عن قتل من لم يحارب كالنساء والأطفال، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان)[10].




[1] بتصرف، إعجاز القرآن ص 49.

[2] الموافقات 2 /92.

[3] بتصرف، المرجع السابق 2 /93، وانظر للاستفادة تفصيل الموضوع نفس الكتاب 2 /88-95.

[4] بتصرف، أصول الفقه: الشيخ محمد أبو زهرة ص 30.

[5] سورة النحل جزء من آية 78.

[6] باختصار الموافقات ي 1 /179- 180. وانظر للفائدة أمثلة تفصيلية نفس الكتاب 1 /180-181.

[7] بتصرف، الموافقات للشاطبي 1 /181.

[8] بتصرف، أصول الفقه: الشيخ محمد أبو زهرة ص 290.

[9] سبق تخريجه ص 165 و ص 257.

[10]صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب 3 /1364 ح 1744. وقد وردت رواية عند الإمام أحمد تبين هذه الغزوة المبهمة أنها غزوة الفتح انظر المسند 2 /15.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook