معالم في فقه المنهاج القرآني العام

الكاتب: المدير -
معالم في فقه المنهاج القرآني العام
"معالم في فقه المنهاج القرآني العام
للدعوة والوعظ والإرشاد




ويقصد به عامةً منهجُ البلاغ والتبليغ، ومنهج تنزيل أحكام الدين وتوجيهاته على الواقع، وإحلاله في واقع الناس، ومنهج إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق، ذلك المنهج الذي صنع اللهُ تعالى به على عينه أنبياءه ورسله، الذين هم نماذج حقيقية لعباد الله الصالحين والمصلحين، وهو المنهج أيضًا الذي سلكه الأنبياء في هداية الخلق والدعوة إلى رب العالمين، وهو المنهج الذي تَمثَّل في سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتهاجه صنع جيل الصحابة والأمة المسلمة الأولى، وبه - لا بغيره - أقام الدين في الواقع، وأحلَّه في النفوس والقلوب.

 

إنه منهج يتضمن أسس الدعوة كما أرشد إليها القرآن الكريم والسنة النبوية من حيث المضمون والوسائل والغايات، في الأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات، والكليات والجزئيات، العلمية والعملية، ولا يصح من الداعية والواعظ والخطيب تبليغُ الدين والدعوة إليه ما لم يفقه معالمَ منهاج الدعوة والبلاغ وأسسَه وضوابطه، وكلما استرشد بها وأعملها في عمله، كان أهدى سبيلًا، وأقوم قيلًا، وأقوى دليلًا، وأكثر جلبًا للخير ودفعًا للشر.

 

ومن أبرز هذه المعالم المنهاجية للبلاغ والدعوة في القرآن الكريم ما يلي:

المَعْلم الأول: الخطابة: أهم وسيلة من وسائل تبليغ الدين، لها مكانة خاصة؛ فلم يصل الدين إلى الناس إلا بها، كيف وقد صارت من شعائر الدين (الجمعة والعيدين والحج...)؟ وبسبب ذلك كان التبليغ بالخطابة تبليغًا للدين وأحكامه ومسائله، ومقاصده ووسائله، وصناعة الإنسان وإصلاح المجتمع على وَفْق هدايات الوحي.

ومعنى ذلك أن مضمون الخطابة هو الدين نفسه، وغايتها هي نفس الحكمة من بعثة الرسل - وهي هداية الخلق للخير والرحمة - التي أرشد الله تعالى خلقه إليها، ووسيلتها كل ما يخدم المضمون والمقصد.

يترتب على هذا أن كل مضمون ينافي مضمون الدين ومقاصده، وكل وسيلة تعود على أصلها بالبطلان، فهي أولى بالبطلان.

 

المَعْلم الثاني: معالجة الكليات الكبرى والمقاصد مقدمة على معالجة الجزئيات، وإذا عولجت الجزئيات فلا بد من ربطها بإطاراتها الكلية التي تحكمها وتضبطها.

 

المعلم الثالث: الدعوة إلى ما دعت إليه الرسل من أصول الإيمان والأخلاق، والثوابت والكليات التي عليها مدار الدعوة ومناط الإصلاح...؛ إذ بغير فقه هذه الأصول الكلية، والتمييز فيها بين ما هو ثابت وما هو متغير، وبين ما هو أصل وما هو فرع، وبين ما هو وسيلة وما هو غاية - يغلب على الخطيب الخلطُ والخبط وعدم الضبط، ويتطرق إلى عمله الفساد ولو قصَد الإصلاح.

 

المعلم الرابع: التزام الحكمة والموعظة الحسنة؛ لأن مقصود الخطبة الوعظ، والخطيب الناجح مأمورٌ بالوعظ بالمنهج الأوفق، وبالأسلوب الأحسن، وبالمسلك الألطف والأرفق، وقد قيل: الواجب لمن يعظ ألا يُعَنِّف، ولمن يوعَظ ألا يأنف.

 

والحقيقة التي لا مِراء فيها أن التزام الحكمة والموعظة الحسنة في تبليغ الدين والدعوة إليه، والوعظ به، وتعليم مسائله - لهو من أقوى عوامل نجاح الخطيب والداعية والواعظ، ويدل على فقهٍ رشيد لمنهاج سديد أصيل في الدعوة ومخاطبة الناس، وهو منهاج مستفاد من دعوات الرسل عليهم السلام، ومن منهاج القرآن الكريم، ومن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

 

المعلم الخامس: التوسط والاعتدال في الأمور كلها: ترغيبًا وترهيبًا، أمرًا ونهيًا، تبشيرا وإنذارًا؛ لأن التوسط بين طرفين مذمومين أصلٌ من أصول الشريعة دلت عليه نصوص عديدة.

 

وقد قرَّر أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى (ت 790) هذه القاعدة، فقال: الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخِذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسبِ العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال[1].

 

المعلم السادس: تجنب الخلافيات ما أمكن، والتركيز على ما يجمع لا على ما يفرِّق، وما يؤلِّف بين القلوب والشعوب لا على ما يفسدها، وكلما استحضر الخطيب والداعية هذا المَعْلمَ، اهتدى إلى تجميع الناس على كلمة الله تعالى، ودعوتهم إلى شرع الله تعالى وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وحبَّب إليهم الدخولَ في طاعة الله جل وعلا ورحمته، من غير رايات مذهبية ضيقة، ولا تعصبٍ للرأي، كثيرًا ما يُعمي عما عند الآخر من نصيب من الحق.

 

والأمة المسلمة محتاجة اليوم - أكثر من أي وقت مضى - لخطابٍ يجمع أبناءها، ويؤلِّف فرقاءها، ويصلح ذات بينِها، قال جل وعلا: ? وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الحجرات: 9، 10]، وقد قرَّر علماء الأمة قواعد جليلة في وحدة الأمة والجماعة، يجب مراعاتها واعتبارها في كل نظر وعمل.

 

وليس هناك خطاب قادر على ذلك إلا الوحي، فهو الذي جمع بالأمس قبائل العرب ومَن حولها في أمة واحدة، بل جمع أممًا وشعوبًا تحت راية الإسلام وأخوَّة الإيمان، واليوم هو نفسه القادر على ذلك، وسيظل دومًا هو المنهج الجامع، وقد تقرر عند أهل الشريعة وذوي الإصلاح أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها[2].

 

وها هنا يلزم الخطيبَ مراعاةُ جملة ضوابط تحقِّق له مصلحة الوحدة والألفة والائتلاف، منها ما يلي:

أ- تقديم ما يجمع ويوحِّد الكلمة ويؤلف بين القلوب، وتجنُّب ما يفرِّق الناس ويثير العداوة والأحقاد، ويُفقد الأخوة، ويُعمِّق الفُرقة والهوَّة.

ب- تغليب الاستشهاد بالوحي قرآنًا وسنةً، والتركيز على الكليات الجامعة في الأصول والفروع، والقواعد والمقاصد.

ج- عند إثارة المسائل الخلافية، لا بد من الترجيح العلمي في المسائل من غير تعصب، وإذا كان ذلك قد يؤدي إلى إحداث الفتنة، فيعدل عن ذلك إلى ما يوافق مذهب البلد، على اعتبار أن الاختلاف بين المذاهب الفقهية اختلافٌ علمي سائغ ومشروع، والعمل بواحد منها لا يلزم عنه القدح في المذاهب الأخرى، بل الصواب إعذار العلماء وتقدير اجتهادهم، دون التنقيص من قدرهم.

د- تجنب تجريح الأشخاص والهيئات والطعن فيهم باستعمال الألفاظ النابية والأحكام المشينة بالكرامة؛ حتى لا يزري ذلك بالخطيب والداعية، ويذهب بهيبته، وينسُبَه إلى الجُهَّال ومَن لا أخلاق لهم.

هـ- تجنب التعصب للرجال وللمذاهب وإظهار الازدراء بمذاهب أهل العلم؛ فإن اجتماع التعصب وازدراء المخالفين مثيرٌ للفتنة، موقظ للحمية، مفسدٌ لبيضة الجماعة.

 

المعلم السابع: تغليب منهج البناء على الهدم، والتفاؤل على التشاؤم، والرجاء على التقنيط والتيئيس، والتيسير والتبشير على التعقيد والتنفير، والأصل في ذلك نصوصٌ عديدة تضافرت في معانيها إلى أن صار الأمرُ من أمهات قواعد الدين الأصيلة، ومقاصدِه النبيلة؛ من ذلك: قوله تعالى: ? فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ? [الشرح: 5، 6]، وقوله سبحانه: ? حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ? [يوسف: 110]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، وبَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا))[3].

 

المعلم الثامن: تعزيز الإيجابي في الاعتقادات والسلوكات والمواقف، والتشجيع على الحفاظ عليه، والإرشاد إلى أحسن السبل لتحصينه وتحسينه، والتنبيه على السلبيات، والإرشاد إلى أيسر الطرق للتغلب عليها والتخلي عنها؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمر بن الخطاب - وقد رآه لا يقوم الليل -: ((نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يصلِّي من الليل))، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلًا[4]، فتأمل كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم عزز السلوك الإيجابي وأقرَّه، ثم دعاه بلطف إلى استكمال النقص قيام الليل (نافلة).

 

المعلم التاسع: الشمول والتنوع في تناول الموضوعات وفي منهج معالجة المشكلات، فليس من الفقه أن يقتصر الخطيب والداعية على صنف واحد من الموضوعات كالرقائق مثلًا، بل المطلوب أن تتنوع موضوعات الخطابة بتنوع معضلات الحياة، وبتنوع قضايا الدين ومسائله، وبشمول أحكامه وتوجيهاته لسائر مناحي الحياة الإنسانية الفردية والأسرية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، وهكذا، فينبغي للداعية والخطيب أن يعرض موضوعات العقيدة وأصول الإيمان، وموضوعات الأحكام الشرعية العملية من العبادات والمعاملات، وتشمل موضوعات المقاصد والحِكَم والأسرار، والإعجاز العلمي، والرد الحكيم والباني على الدعاوى المناوئة، كما يتناول موضوعات في التربية والمرأة والأسرة، والسياسة والفكر والاقتصاد، وسائر المعضلات التي تجر على الأمة أضرارًا ومفاسد؛ للوقوف على أسبابها وحجم مخاطرها، مع اقتراح ما يلزم من الحلول الشرعية المناسبة لها، وكذا كل الظواهر الإيجابية والأعمال الخيرة في الأمة؛ للتنويهِ بها والإشادة بأصحابها، والبحث عن سبل تعزيزها وتكثيرها، وكل المستجدات والنوازل التي تنزل بالأمة كيفما كان نوعها، إضافة لذلك ينبغي ألا يغفل عن اغتنام المناسبات الدينية والأيام المجيدة في تاريخ الأمة عمومًا؛ للتنبيه على ما فيها من دروس وعبر ومواعظ، ويحسُنُ بالوعاظ والخطباء والدعاة في هذا السياق تجنُّبُ التكرار والاجترار، والاجتهادُ في الإبداع ما أمكن في الفهم والتنزيل والتوجيه، وتجديد طرق تناول المناسبة الواحدة التي تتكرر كل مرة.

 

وفي الختام: لا بد من تقرير أن مِن أول ما يلزم الخطيبَ والداعية المسلم أن يفقهاه قبل مباشرة عملهما الوعظي - فقه الهَدْي المنهاجي الدعوي العام للقرآن الكريم ومقاصد الوحي، والغاية من الخطابة والدعوة إلى الله تعالى، فبغير هذا الفقه يسيء الخطيب أكثرَ مما يحسن، ويفشل أكثر مما ينجح، ويضر ويفسد من حيث يظن أنه ينفع ويصلح، ويكون ? كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ? [النحل: 92].

وكم أُتِيت الأمةُ كثيرًا عبر تاريخها من افتقار أو افتقاد مَن يتقلد مناصبها العامة لهذا الفقه كلًّا أو جزءًا؛ لذلك بات من الضروري التفطن لهذا الخلل، الذي أوقع كثيرًا مِن الخطل، وأورث كثيرًا من العلل، وجعل مناصب الأمة مناصبَ مجردةً عن مقاصدها الدينية، ومفرغة من آثارها في خدمة الدين بنفع الناس وهدايتهم إلى رحمة رب العالمين.

 

والله ولي التوفيق والهادي إلى الرشد والسداد



[1] الموافقات: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، دار ابن القيم - دار بن عفان، سنة النشر: 1424هـ / 2003م ، 2/ 279.

[2] روي أنه من قول الإمام مالك رضي الله عنه.

[3] أخرجه البخاري ومسلم بألفاظ قريبة وروايات مختلفة.

[4] أخرجه البخاري ومسلم.


"
شارك المقالة:
34 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook