عندما ركبت المترو في دبي، شعرت أنه مترو العالم، أشخاص من جنسيات وثقافات وأديان مختلفة مقيمون في دبي يجلسون إلى جوار بعضهم البعض، رأيت هنودًا وباكستانيين وبنغال وفلبينيين وصينيين ومصريين ومغاربة وغيرهم، الجميع يجلسون ويتحدثون سويًا بالإنجليزية كل منهم بلكنته. هذا المشهد الذي رافقني طوال الخمس محطات في المترو، رافقني أيضًا طوال رحلتي إلى دبي بصورة أكبر.
خرجت من محطة المترو في منطقة ديرة دبي، وللوهلة الأولى تصورت أنني انتقلت إلى أحد أحياء نيودلهي، الملامح الهندية تطغى على المكان بأكمله، تلتقط أذنك اللغتين الإنجليزية والهندية، ويلفت نظرك الساري الهندي بألوانه الزاهية، بينما تتسلل إلى أنفك رائحة التوابل النفاذة المنبعثة من أحد المطاعم في المنطقة.
يمثل الأجانب حوالي 83% من عدد سكان دبي البالغ عددهم 3.1 مليون نسمة، جاؤوا من كل مكان في العالم تقريبًا، حيث يحملون جنسيات حوالي 200 دولة، ويتحدثون قرابة الـ 140 لغة، أهمها العربية، الإنجليزية، الهندية، الأردية، الفارسية والصينية، ويدينون بالعديد من ديانات على رأسها الإسلام، والهندوسية، والمسيحية، والبوذية.
الحياة تختلف تمامًا في منطقة أبو هيل، هنا تشعر أنك عدت فجأة لمدينة عربية خالصة. هنا يتركز المصريون والعرب خاصة من المغرب وتونس، على مقهى مزة على سبيل المثال يتجمع المصريون، فتشعر وكأنك في مصر، خاصة مع هذه الأجواء التي رافقت مباراة مصر مع الكونغو في كأس الأمم الأفريقية، والتي شهدتها أثناء وجودي عليها.
في شوارع أبو هيل المختلفة، ستلاحظ حضور طاغ للملامح المصرية والعربية على حساب ملامح الجنسيات الأخرى المنتشرة في بقية المناطق بشكل أكبر، ورغم انتشار محلات تأجير السيارات في هذه المنطقة بأسمائها المصرية والعربية مثل “الفراعنة” و”الباشا الجديد” وغيرها، تنتشر أيضًا العديد من المطاعم التي يعبر اسم عدد كبير منها عن هويات أصحابها مثل “مطعم اليمن” و”زهرة القدس” و”أم الدنيا” و”العمدة”. هنا أيضًا ستجد محلًا مصريًا بامتياز، هو الوحيد في دبي، المتخصص في تصنيع وبيع الفسيخ، ومن شدة إقبال المصريين عليه، افتتح فروع في جميع الإمارات السبعة.
وجه دبي الذي يعرفه العالم يظهر في مناطق أخرى مثل الجميرا ومارينا والنخلة، وهي جزيرة صناعية على شكل نخلة تمتد داخل البحر، هنا دبي الأورو- أمريكية. الثقافة مختلفة تمامًا، ففي هذه الأماكن تعيش الجنسيات الأوروبية والأمريكية وأغنى أغنياء العالم، على امتداد شارع الجميرا تصطف على الجانبين فيلل ثم قصور، والكثير من عيادات التجميل والأسنان الأجنبية، المحلات التي تتخذ الفيلل مكانًا لها، تحمل أسماء ماركات عالمية، حتى يدهشك وجود مطعم صبحي كابر المصري الشهير وسط كل هذا الكم من الثقافة الغربية.
هذا التنوع الثقافي والديني الذي تعيشه دبي، جعل من السماح بممارسة الطقوس والشعائر الدينية المختلفة، أمرًا لا مفر منه، فمهما كانت ديانتك ستجد مكان عبادة مخصص، وهو الأمر غير المسموح به في إمارات أخرى في الدولة الخليجية، فإلى جانب المساجد السنية والشيعية، كنائس كاثوليكية وأرثوذكسية، ومعابد مختلفة، ورغم هذا الانفتاح على الأديان، لا يسمح بوضع رموز دينية على هذه الأماكن، سوى المساجد.
التنوع الثقافي أيضًا يظهر جليًا في كافة البازارات بدبي، حيث تباع الرموز الهندية والصينية والمصرية إلى جانب مجسمات برج خليفة، أحد أهم معالم السياحة في دبي، فإلى جانب مجسم البرج ستجد تماثيل لبوذا وآلة هندية مختلفة، وإلى جانب الدشداشة ستجد الشال الكشميري الأصيل، وإلى جانب تمثال صغير لشخص بدوي خليجي، تجد تمثال آخر لقناع الملك المصري توت عنخ آمون. في الحقيقة، زرت أكثر من 30 دولة حول العالم، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي ألاحظ فيها بازارات سياحية تعرض رموزًا ثقافية وأثرية لدول وثقافات أخرى.
يلعب العمل في دبي فرصة رائعة للاختلاط والتقارب بين الثقافات المختلفة. في الفندق الذي أقمت فيه في ديرة، كان معظم العمال من الهنود والموظفون صينيين وفلبينيين، إلى جانب موظف مصري، حتى قائمة الطعام التي يقدمها مطعم الفندق كانت مقسمة بحسب مطابخ دول مختلفة، عربية وهندية وصينية وأفغانية وغيرها.
اختلاط الثقافات لا يقتصر فقط على مكان العمل، وإنما أيضًا على السكن، فمستوى المعيشة المرتفع، والذي ينعكس على أسعار السكن في إمارة الأرقام القياسية، أدى إلى انتشار ثقافة المشاركة أو “الشيرينج” في السكن. صديقة مصرية مقيمة في دبي، أخبرتني أنها يشاركها السكن جنسيات هندية ومغربية وباكستانية، وديانات مسلمة ومسيحية وبوذية وهندوسية.
هذا الاختلاط يبدو أنه ينعكس على ثقافة أفراد المقيمين في دبي، يحكي لي صديق آخر هنا، أنه دخل على صديق هندوسي الغرفة، وعندما وجده يؤدي صلواته باكيًا، احترمه واحترمها، وعندما سأله عن سبب بكائه، فعلم أن ابنه مريض ويدعو الله لشفائه، فرد عليه قائلًا: “إن شاء الله ربنا هيشفيهولك”، كل منهم دعا ربه بطريقته ومعتقده، والهدف شفاء إنسانًا.
الاختلاط بين الثقافات المختلفة في دبي سمح باختلاط لغوي، ينشأ عنه حاليًا لغة جديدة تسمح لقطاع كبير من المقيمين في دبي بالتعامل فيما بينهم بلغة مختلطة غير مكتوبة، يمكن أن نطلق عليها مجازًا، اللغة الأنجلوهندعربية، لما تجمعه من مفردات اللغات الثلاث في جملها، وهي مستخدمة بشكل كبير بين المقيمين في دبي، في الطرق والأسواق والمطاعم وغيرهم.
كنت في طريقي إلى الجميرا عندما سأل سائق بملامح هندية صديقي، الذي يقود سيارته بينما أجلس بجواره ملتزمًا بحزام الأمان، عن طريق ما، ففوجئت بصديقي يتحدث بكلمات بالكاد أفهم بعضها، قال: “انت تسير سيدا آند جو استريت بعدين يساوي يوتيرن يسار”. الغريب أن الهندي فهم الجملة وهز رأسه يمينًا ويسارًا إلى الأسفل، وهي حركة هندية شهيرة تعني الموافقة، ثم انطلق بحسب الوصف الذي أخبره به صديقي، الذي أخبرني بمعنى الجملة المكونة من مفردات ثلاث لغات، وهو: “تحرك إلى الأمام وواصل طريقك ثم خذ المنحنى واتجه يسارًا”.
وكما شكلت دبي مجتمعها، فرض مجتمع دبي نفسه على قرارات وقوانين حكومة الإمارة، في 2015، أصدرت الإمارات العربية المتحدة قانونًا يجرم كافة أشكال التمييز وأي فعل من شأنه الإساءة للأديان والمقدسات، ويعاقب كل من يرمي جماعة دينية أخرى بالكفر، ويحظر التمييز بين الناس على أساس الديانة أو الطائفة أو العقيدة أو الجنس أو اللون أو العرق، ويعاقب القانون من يرتكب أي من هذه الجرائم بالسجن مدة لا تتجاوز 10 سنوات وغرامة لا تتعدى مليوني درهم إماراتي (544 ألف دولار أمريكي).