ملوك قبيلة كندة بالرياض في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
ملوك قبيلة كندة بالرياض في المملكة العربية السعودية

ملوك قبيلة كندة بالرياض في المملكة العربية السعودية.

 

حجر بن عمرو

أدى حجر بن عمرو الملقب بآكل المرار، دورًا سياسيًا واضحًا في تاريخ مملكة كندة، فقد عده المؤرخون والمهتمون أول ملوك العهد (العصر) الكندي الثالث، وأنه مؤسس السلالة الثالثة، وقد اختلف في نسبه، فبعضهم عده من سلالة حجر بن وهب آخر ملوك العهد الثاني  .  في حين رأى آخرون أنه ليس وريثًا شرعيًا للسلالة الكندية السابقة له  .  وسواء أكان حجر بن عمرو من سلالة حجر بن وهب أم لا؛ فقد عزم على اتخاذ جميع الإجراءات لتحقيق مملكة إقليمية ذات شأن، مبتدئًا الاهتمام بالشؤون المحلية الداخلية، وذلك باتباعه الخطوات الآتية:
انتهاجه سياسة مؤداها توطيد الأمن والاستقرار للكنديين، وذلك بتوحيد رايتهم تحت قيادته.
 اهتمامه البالغ بالقبائل والقوى السياسية المحلية، وعقد معاهدات سياسية معها، لعل من أهمها معاهدته مع قبيلة ربيعة في الذنائب 
 قيامه برد اعتبار القبائل المحلية التي تعرضت لهجوم خارجي، فشن حربه على اللخميين بهدف إعادة ما استولوا عليه، من قبيلة بكر بن وائل 
 مصاهرته لعدد من القبائل ذات الشأن في المنطقة التي تتمتع بالجاه السياسي والاجتماعي، فمثلاً زوجته أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني تنتسب إلى قبيلة بكر بن وائل ذات المكانة المرموقة. أما زوجته الثانية، وهي هند الهنود (هند بنت ظالم) وبزواجه منها ارتبط بعلاقة جيدة مع الحارث الغساني، لأنها أخت زوجته. في حين كانت زوجته الثالثة (صبا) بنتًا لأبي المعاهر بن حسان بن عمر بن تبع   وزواجه بهذه المرأة ضمن له التأييد السياسي الحميري، غير المستهان به آنذاك.
 
وبعد أن تمكن من كسب تأييد هذه القبائل المحلية وجد من الضروري توسيع نفوذ مملكته السياسي والجغرافي، فقام بعملين مهمين هما:
هجومه على منطقتي عُمان والبحرين، في مسعى واضحٍ لتوسيع نفوذه.
مواجهته الصارمة لعدد من القوى السياسية الإقليمية، مثل: مواجهته لزياد بن الهبولة السليحي، أحد الملوك المحليين للقوى السياسية في الشام، لقيامه بمهاجمة الأراضي الكندية. وكانت هذه المواجهة لصالح حجر بن عمرو 
وفي مسيرة هذا الملك أمران مهمان، أولهما: ما ورد في نص كتابي وجد بجبل القارة الواقع في وادٍ يعرف باسم (نفود مُسمّى)   من تأكيد أنه الملك الوحيد من ملوك كندة، بل ملوك المنطقة الوسطى في شبه الجزيرة العربية، (نجد واليمامة). ثانيهما: لقبه الذي اشتهر به، وهو آكل المرار، فقد تعددت عند المؤرخين الروايات حول سبب نعته بهذا اللقب، ويمكن حصرها في ثلاث روايات هي:
 نظرًا إلى كبر أسنانه الأمامية في فكه العلوي، لدرجة أن شفته العليا لا تغطي هذه الأسنان.
 لأن امرأته هند (وقيل جارية ل هـ) شبهته بالجمل الذي يأكل المرار لبغضها إياه، فغلب ذلك لقبًا عليه.
 لأنه أكل من شجرة المرار، في أثناء جوع أصابه وجماعة معه في سفر، فلقبه أصحابه بآكل المرار  
وبهذه الحملات والغزوات تمكن حجر بن عمرو من تأسيس مملكة شملت منطقة نجد والبحرين شرقًا، والحجاز غربًا، وأطراف العراق شمالاً  .  وما من بداية إلا ولها نهاية، فبعد هذا الكفاح الطويل في سبيل تأسيس الدولة  ،  توفي هرمًا في عاصمته (بطن عاقل) حيث دفن.
 

عمرو بن حجر

 
تولى عمرو الابن الأكبر لحجر آكل المرار من زوجته الأميرة الحميرية صبا، الحكم بعد وفاة والده. وبعد تقلده زمام الأمور استمر في إدارة الدولة من مدينة بطن عاقل عاصمة ملكه. وعلى الرغم من أنه استمر فترة تزيد على الأربعة عقود في الحكم  ،  إلا أنه لا يعرف كثير عنه، عدا بعض الشذرات التي خلفتها المصادر التاريخية، ومنها أن عمرو بن حجر لقب بالمقصور، إما لأنه اقتصر على حكم أبيه  ،  فلم يَسْعَ إلى زيادة مناطق نفوذ كندة سياسيًا  ؛  وإما لأن ربيعة أجبرته واقتصر حكمه على كندة فقط، متخليًا عن اليمامة لصالح أخيه معاوية  ،  ولم يتوانَ عمرو المقصور عن الاستفادة من قرابته لأمه، الأميرة الحميرية، مقويًا علاقته وتحالفه مع الحميريين، حتى إنه استنجد بمرثد بن عبد ينكف الحميري عندما حصلت اضطرابات داخلية نتيجة للثورة التي قامت بها قبيلة ربيعة ضده. وبعد هذه الفترة الطويلة في الحكم قتل عمرو بن حجر، في أثناء إحدى غزواته لبلاد الشام، على يد الحارث بن أبي شمر   في رواية، وعلى يد عامر الجون في معركة القنان   في رواية أخرى.
 

الحارث بن عمرو

 
يعد الحارث بن عمرو الملقب بالحرّاب  ،  الأشهر بين ملوك كندة، عند الإخباريين، نظرًا إلى أن أقصى اتساع وصلته هذه المملكة كان خلال فترة حكمه الذي شمل، بالإضافة إلى نجد واليمامة وأراضي بكر بن وائل، أراضي مملكة الحيرة نفسها. لكن من أسباب شهرته أيضًا، وعناية المؤرخين المسلمين به، كانت لعلاقاته وارتباطاته بأهم الممالك الإقليمية آنذاك، وهي مملكة الحيرة، والممالك الدولية، مثل: المملكتين الفارسية والبيزنطية  .  ولهذين السببين أعطي الحارث بن عمرو عناية خاصة من الإخباريين، فهو على الأقل الأكثر ذكرًا عندهم، ومع هذا فقد اختلفوا في عدد من الأخبار المنسوبة إليه، ولعل من هذه الأمور التي اختلفوا فيها الأمرين الآتيين:
 
 فترة حكمه التي وصلت عند بعضهم إلى ستين عامًا  ،  فيما أشار آخرون إلى أن حكمه كان من 495 - 528م، أي ثلاثة وثلاثون عامًا. وهناك آخرون اتفقوا مع أصحاب الرأي الثاني في سنة توليه الحكم، لكنهم يرون أن نهاية حكمه كانت في سنة 524م. في حين رأى آخرون أن حكمه استمر مدة ثمانٍ وثلاثين سنة، وتحديدًا 490 - 528م  
 أما المدينة التي اتخذها مقرًا لحكمه، فقد أشار بعض المؤرخين إلى اتخاذه إحدى المدينتين، إما الحيرة، وإما الأنبار، عاصمة لحكمه، لكن هناك من يرى أن الحارث لم يتخذ عاصمة له، فقد فضل أن يكون متجولاً في أرض العرب  
والواقع أن أمر اختلاف الإخباريين في تحديد عاصمته، هو من الأمور الغريبة، فهو أمر يحتاج إلى تدقيق وتمحيص، إذ إن اتخاذه هذا القرار لا بد وأن يكون وراءه عدد من العوامل والدوافع المهمة، مثل نشوء خلافات قوية داخل البلاط الملكي، أو أن اعتناقه المذهب الفارسي الجديد (المزدكية) دفعه إلى الاستقرار خارج مناطق نفوذه المعروفة، لعلمه أن هذا المذهب الإباحي لن يكون مقبولاً في المجتمع المحلي، أو أن الحارث بسبب طول فترة حكمه، لم يعد مرغوبًا به بين بني جلدته. ومن المستغرب أن يقوم الحارث باستبدال عاصمته التي أمضى فيها جميع سنوات حكمه عدا الثلاث سنوات الأخيرة، ما لم يكن هناك سبب وجيه. أما القول إنه كان جوالاً، ولم يتخذ عاصمة له، ففيه إجحاف غير مقبول، ذلك أنه - إن صح هذا القول - يشير إلى أن كندة لم تكن مملكة بالمفهوم الحقيقي التي تعتمد على قوانين ونظم واضحة، بل كانت تدار بالأسلوب المشيخي البدوي، وهو أمر لا يرجح، فما يعتقد أنها كانت مملكة مثلها مثل الممالك الأخرى المعاصرة لها، لكن الإخباريين في العصور اللاحقة تدفعهم ميولهم السياسية والقبلية في كتاباتهم، فلا يستغرب أن القول بعدم وجود عاصمة هو من باب الصراع الفكري الشمالي - الجنوبي الذي كان واضحًا عند عدد من المؤرخين المسلمين آنذاك
ومن الواضح من سيرة هذا الملك، أنه سيطر في فترة حكمه الطويلة نسبيًا على أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية، فقد استغل بذكاء واضح حالة الضعف التي وصلت إليها القبيلتان الرئيستان - آنذاك - في نجد وهما (بنو بكر وتغلب)، نتيجة لحروبهما الطويلة التي استمرت أربعين عامًا، في الحرب المعروفة باسم حرب (البسوس). فباستغلاله لهذا الشقاق بين هاتين القبيلتين، تمكن من بسط سيطرته على المناطق الداخلية لشبه الجزيرة العربية، وبالإضافة إلى استفادته الواضحة من هذا الخلاف في بسط سيطرته داخليًا، فقد استثمر التوتر السياسي الذي نشأ بين البيزنطيين والفرس، فحقق مكاسب واضحة بسيطرته على مناطق اللخميين وعاصمتهم الحيرة  .  ومن أهم أعماله السياسية والحربية:
مهاجمة الحدود الجنوبية للإمبراطورية البيزنطية سنة 497م، عندما جهز حملة لهذا الغرض بقيادة ابنيه (حجر)، و (جبلة)  
مهاجمته للمرة الثانية الحدود الجنوبية للإمبراطورية البيزنطية، وذلك بعد أربع سنوات من حملته الأولى، لكن هذه المرة كانت الحملة بقيادة ابنه (معد يكرب). وكان من نتائج هذه الحملة المعاهدة التي تمت بين البيزنطيين والكنديين  
تحقيقه العمل الأبرز في مسيرته السياسية، وهو سيطرته على الحيرة، بعد أن تمكن من طرد ملكها المنذر بن ماء السماء، وأعاد المهتمون بتاريخ كندة نجاح الحارث بن عمرو في الاستيلاء على الحيرة إلى أحد الأسباب الآتية: أولها: اعتناقه مذهب المزدكية، وهو المذهب الذي نادى به ملك فارس - آنذاك - قباذ، ولرفض المنذر بن ماء السماء اعتناق هذا المذهب الإباحي، فوجد الحارث الدعم والمساندة المباشرة من ملك فارس قباذ  .  ثانيها: أن الحارث قَبِلَ دعوة عرب الحيرة له من بني بكر بن وائل، ليحكم الحيرة بعد ثورتهم على ملكها السابق المنذر بن ماء السماء  ،  فتمكن من استغلال هذه الخلافات والفتن الداخلية، واستولى على الحيرة. ثالثها: أن الحارث استفاد من كراهية قباذ ملك فارس للحروب، فهو يميل إلى حل الخلافات سلمًا  ،  فشن الحارث حربًا على الحيرة وملكها واستولى عليها لثلاث سنوات ضامنًا عدم تدخل الملك الفارسي (قباذ) في هذه الحروب
وأيًا كانت هذه الأسباب التي ساعدت الحارث على حكم الحيرة، ولو لفترة قصيرة، فالواضح أن ظروف فارس الداخلية، وهي إحدى القوى الدولية آنذاك، وخلافات العائلة الساسانية حول مذهب مزدك الإباحي الذي اعتنقه بشكل واضح الملك (قباذ)، وعارضه بعض أفراد العائلة المالكة بزعامة أخيه (جاماسب)، نتيجة للمعارضة الشعبية الواضحة لهذا المذهب.
الإصلاح الإداري الذي انتهجه الحارث بن عمرو بقيامه بتقسيم مملكته إلى خمس، وقيل ست ولايات، وعيَّن على كل واحدة منها أحد أبنائه  ،  على النحو الآتي:
 حجر بن الحارث: حكم بني أسد وغطفان فيما بين يثرب (المدينة) والفرات، جبل طيئ.
 شرحبيل بن الحارث: حكم بكر بن وائل بأجمعها، وبني حنظلة، وبني دارم والرباب، وهم يقيمون بين الفرات والبحرين
 معد يكرب بن الحارث: تولى حكم بني تغلب، والنمر بن قاسط بن زيد بن مناة، والصنائع، وهم بنو رقية، وهم يقطنون تهامة وأطراف الحجاز.
 سلمة بن الحارث: حكم قيس عيلان  
 
وبعد مرور ثلاث سنوات من استيلاء الحارث على الحيرة وتنظيمه السياسي هذا، جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تغيرت الأحوال في فارس، إذ تقلد الحكم (أنو شروان بن قباذ) الذي رغب في التقرب من الغالبية العظمى من شعبه، فاتخذ قراره بإلغاء المذهب المزدكي، ولم يكتفِ بمجرد الإلغاء بل تعداه إلى الفتك بأتباع هذا المذهب ومطاردتهم. ومن هؤلاء الذين صدر قرار بمطاردتهم ومعاقبتهم الحارث بن عمرو، فأعاد (أنو شروان) المنذر بن ماء السماء اللخمي إلى حكم الحيرة  ،  ومن ثَمَّ شجع المناذرة على قتل الحارث بن عمرو، وبهذا الضوء الأخضر جمع المنذر بن ماء السماء كل إمكاناته لينتقم من الحارث بن عمرو شر انتقام، فصارت قواته تطارد الحارث أينما حل، حتى داخل أراضي شبه الجزيرة العربية. وبعد فترة زمنية من المطاردة تمكنت إحدى هذه الفرق العسكرية من العثور على الحارث وقتله، تنفيذًا لرغبة المنذر بن ماء السماء، فحقق حلمه بالثأر لمقتل والده النعمان الأكبر. ولم تسلم حادثة مقتل أو وفاة الحارث بن عمرو مثل بقية حوادث هذه الدولة من الاختلاف الواضح في الروايات المنسوبة إليها، فروايات مقتله أو وفاته وصلت إلى خمس روايات، ثلاث منها تشير إلى مقتله، واثنتان تشيران إلى وفاته، إحداهما بسبب مرض ألم به. وهذه الروايات جاءت على النحو الآتي:
 
 أن مقتله جاء على يد الحليف القوي للمناذرة في المنطقة، وهي قبيلة كلب التي تمكنت منه بعد مطاردة مضنية له في الأجزاء الداخلية لشبه الجزيرة العربية.
 
 أن مقتله جاء على أيدي عدد من أفراد قبيلة كلب، ولكن ليس عن طريق المطاردة والملاحقة، إذ كان الحارث بن عمرو مستقرًا في حمى هذه القبيلة، لكن أفرادًا منهم قتلوه  ،  ربما استجابة لضغوط خارجية جاءت من المناذرة الذين ألحوا عليهم بقتله.
 
 أن مقتل الحارث بن عمرو كان على يد ملك المناذرة نفسه المنذر بن ماء السماء، إذ انتهز الثاني هروب الأول من مواجهة القائد الروماني في فلسطين (ديوميدس) (Diomedes)، خوفًا من بطشه، فلحقه المنذر بن ماء السماء حتى تمكن منه وقتله واستولى على ماله وأهل بيته  
 
هذه الروايات الثلاث -كما يلاحظ - تظهر أن الحارث بن عمرو الكندي مات مقتولاً، لكن هناك روايتان تظهران أن وفاة الملك الطموح كانت طبيعية: الأولى، وهي الرواية التي ذكرها الأصفهاني؛ أن الحارث بعد هروبه من الحيرة، استقر في أراضي بني كلب، وبقي عندهم حتى مات حتف أنفه. الثانية، وهي التي روج لها الكنديون، ومفادها أن الحارث خرج يصطاد، فتبع تيسًا   من الظباء فأعجزه، فأقسم ألا يأكل شيئًا إلا من كبده، فطلبته الخيل، فأتت بالتيس بعد ثلاثة أيام، وقد كاد الحارث يهلك من الجوع، فشوى بطنه، فأكل فلذة حارة من كبده فمات 
 

حجر بن الحارث

 
بعد وفاة الحارث أو مقتله، انتقلت مقاليد إدارة الدولة إلى ابنه البكر (حجر). وكانت الظروف المعاصرة والمحيطة به غير مواتية، فلم تكن لتخدم استمراره في الحكم فعداوته للمنذر بن ماء السماء (زوج أخته هند بنت الحارث) الذي كان وراء مقتل والده الحارث، بالإضافة إلى الضغوط الموجهة إلى اللخميين من الفرس لتقويض الحكم الكندي؛ هذا من الجانب الخارجي. أما داخليًا فوضعه لم يختلف كثيرًا عنه خارجيًا، فقد استغل عدد من القبائل وفاة الملك الحارث وأظهرت عصيانها وتمردها، بل ثورتها ضد عائلة آل آكل المرار. ولعل أبرز هذه القبائل قبيلة (بني أسد)، وهي إحدى القبائل التي كان يحكمها حجر في حياة والده الحارث، فرفضت دفع الإتاوة السنوية. وهذه الأحداث الداخلية التي لا يستبعد أن يكون للمناذرة دورٌ فيها، دفعت حجر بن الحارث إلى مهاجمة اللخميين، ليس فقط رغبة منه في الثأر لمقتل والده، أو استرجاع نفوذ كندة في المناطق الشمالية، بل لإيجاد عدو خارجي يسمح بعودة وحدة الصف الداخلية، إلا أن الظروف وإمكانات دولة كندة - آنذاك - لم تساعد حجرًا على تحقيق رغبته وحلمه على الأقل بالوحدة الداخلية. كما أن القدر لم يمهله، فقُتل بعد فترة من توليه الحكم، وهو في خضم هذه الأحداث الجسام. وقد تعددت روايات مقتله التي اتفقت في شيء واحد فقط وهو أن قاتله (قاتلي هـ) كانوا من قبيلة بني أسد، وهي إشارة واضحة إلى كراهيتهم الشديدة لحجر، وتعبير عن عدم قبولهم به حاكمًا عليهم، لكنهم قبلوا به على مضض في حياة والده، والروايات هي:  
 
 أن أفراد قبيلة أسد استغلوا نبوءة كاهنهم من أن الحارث سيقتل بوساطتهم، فعادت مجموعة منهم-على الرغم من أن الحارث قد عفا عنهم بعد رفضهم دفع الإتاوة-فقتلوه وهو نائم.
 
 أن قبيلة بني أسد عزمت - بعد أن علمت بمقتل (وفاة) والده -على التخلص من حجر، وما إن علمت بقدومه إليهم حتى قاموا بأسره وسجنه في خيمة. وفي أثناء ذلك قام علباء بن الحارث بتحريض غلامٍ من بني كاهل على قتل حجر، فقام الغلام، فطعنه طعنة أصابت منه مقتلاً، وهو مسجون في خيمته
 أن قاتله هو علباء بن الحارث الكاهلي، في أثناء هجوم بني أسد على عسكر حجر بن الحارث بعد أن أخبرهم الكاهن بنبوءته.
 أن قاتله هو ابن أخت علباء بن الحارث الذي سعى إلى قتل حجر بن الحارث ثأرًا لمقتل والده.
 

امرؤ القيس

 
بعد تقلد خمسة ملوك وامتداد جغرافي شمل معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية، أراد الله أن يتم القضاء على حكم آل آكل المرار، ونفوذ قبيلة كندة. ولعل مؤشرات بدء سقوط المملكة دخولها في الخلافات المؤقتة التي نشبت بين الحليفين التاريخيين اللخميين والفرس، المعروف عنهما التحالف القوي ضد النفوذ البيزنطي. وما عودة العلاقات بينهما إلا بمنـزلة القرار النهائي للقضاء على هذه المملكة الكندية التي قامت بدعم ومساندة جنوبية لا علاقة للفرس واللخميين بها. ولعل ما ساعد على الانهيار السريع، هو تنظيم الحارث بن عمرو مملكته حين قسمها - نـزولاً كما يقال عند رغبة أشراف القبائل - إلى خمس أو ست ولايات، موليًا أبناءه إدارة شؤون هذه الولايات. وفيما يظهر أن الأبناء لم يستوعبوا غرض هذا التنظيم الذي قد يكون الحارث تأثر به عندما احتك بالبيزنطيين والفرس في الشام، فاستخدم الأبناء عقلية الإمارة والتسلط، وليس الإدارة بحكمة، وما يدل على القول الأخير هي الثورة السريعة لقبائل بني أسد، فما إن علموا بوفاة الحارث حتى أعلنوا عصيانهم على أميرهم، وملكهم بعد وفاة والده حجر، وتبعتها القبائل الأخرى. وهكذا لم تمضِ إلا أربع سنوات على تولي حجر الحكم حتى قتل. هذا ما كان من شأن حجر بن الحارث، أما إخوته الآخرون فعمل المنذر بن ماء السماء جاهدًا على الإيقاع بينهم وبذر العداوة والصراع، وقد حقق في ذلك نجاحًا باهرًا، تمثل هذا العمل في دوره الجلي بإيجاد العداء الشديد الذي حصل بين الأخوين (سلمة) حاكم قَيس عِيلان، و (شرحبيل) حاكم بكر بن وائل وغيرهما، إلى درجة أن الأخ وضع جائزة ثمينة لمن يأتيه برأس أخيه. وكان المقتول منهما في أثناء هذا الخلاف هو شرحبيل في اليوم المعروف (بيوم الكُلاب الأول)  .  فيما قتل الثاني سلمة في اليوم المعروف (بيوم أُوارة الأول)  .  أما الابن الآخر معد يكرب، قائد الحملة الثانية ضد الحدود الجنوبية للإمبراطورية البيزنطية في عهد والده الحارث بن عمرو، وكان معروفًا بسرعته وشجاعته، فلم يتمكن من تحمل صعوبة هذه الأحداث، مقتل والده أولاً ثم مقتل أخيه الأكبر ثانيًا، ثم الخلاف والعداء الذي نشب بين أخويه شرحبيل وسلمة وانتهى الأمر بمقتلهما، فأصيب - كما يقال - بالحزن والغم حتى اعتراه وسواس هلك به 
 
وقد يقول قائل: إن سقوط دولة كندة في عهد حجر بن الحارث دليل على ضعف شخصيته، وعدم حنكته. وربما أن هذا الأمر غير مستبعد، لكن سقوط هذه الدولة كان يكمن في الهيمنة الطويلة للحارث الذي أمضى ما يزيد على أربعين عامًا في الحكم وحساباته السياسية الخاطئة. ومن المعلوم أن طول الفترة الزمنية في الحكم تؤدي في نهاية المطاف إلى ظهور قوى سياسية (مراكز قوى) تدفع الدولة إلى السقوط، لأنها تعمل لمصالحها الذاتية فقط دون الاعتبار بالمصالح الوطنية. كما آلت أمور أسرة حجر آكل المرار إلى أصغر أبناء حجر بن الحارث. ويقال إن والده لم يكن راضيًا عنه لقرضه الشعر  ،  وهو أمر - كما يقال - كانت تأنف منه الملوك  .  وهكذا أمضى عمره في أثناء حياة والده في التنقل والترحال، وتمضية الوقت بالسهر والسمر، إلى أن جاءه يومًا خبر قتل والده، وهو في قرية من قرى حضرموت، وتحديدًا في (دمّون)  .  وفي رغبة منه لتحقيق وصية والده، قام باستنهاض القبائل العربية لمساعدته، ومد يد العون له للثأر لمقتل والده، وقد أيدته في البداية قبيلتا بكر وتغلب، لكنهما تنصلتا لاحقًا من الالتزام بمساعدته، فدفعه هذا التنصل في البداية إلى الاستعانة بجنود مرتزقة  ،  لكنه اكتشف لاحقًا أن الأمور لن تسير بأسلوبه هذا إلى شيء ملموس، وأنه إذا أراد أن يحقق ما يصبو إليه، فما عليه إلا التوجه إلى من بيدهم قلب الأمور رأسًا على عقب لقوتهم وسيطرتهم الدولية الكبرى، فاتجه إلى السموءل بن عادياء اليهودي  ،  ليساعده في الاتصال بالقيصر أقوى شخصية سياسية آنذاك. وبعد أن قام بإكرام امرئ القيس، شفع له عند الحارث بن أبي شمر الغساني الذي ساعده في الالتقاء بالقيصر. وإذا صحت الرواية عن هذه الخطوة التي قام بها امرؤ القيس كي يتيسر له الالتقاء بالقيصر، فهي إشارة واضحة إلى أن كندة لم يكن لها أي تأثير أو مكانة لدى قيصر الروم. ومهما يمكن استنتاجه من أسلوب امرئ القيس للوصول إلى القيصر، فإن الروايات تقول إن القيصر استقبله وتفهم مطالبه، بل يقال إنه أرسل معه جيشًا ليساعده على تحقيق هدفه. لكن الروايات تذكر أن بني أسد، عندما علموا بنية امرئ القيس الاتصال بالقيصر، أرسلوا خلفه رجلاً أقنع القيصر ليس فقط بسحب تأييده ومساندته لامرئ القيس بل وقتله  ،  فيقال إنه أرسل إليه حلة وشي مسمومة منسوجة من الذهب، لبسها امرؤ القيس، فأدت في نهاية الأمر إلى وفاته مسمومًا
 
لم تغير وفاة امرئ القيس من الأمر شيئًا، فالمنطقة بعد مقتل جده حجر بن عمرو دخلت في دوامة الصراعات الحربية الطويلة التي عرفت عند المؤرخين والإخباريين باسم (أيام العرب)، وكل ما أدت إليه وفاة امرئ القيس هي نهاية مطالبة أسرة حجر آكل المرار بالحكم مرة أخرى.
 
 
شارك المقالة:
114 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook