مملكة الجرهاء بالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
مملكة الجرهاء بالمنطقة الشرقية  في المملكة العربية السعودية

مملكة الجرهاء بالمنطقة الشرقية  في المملكة العربية السعودية.

 
حدث تحول كبير في تاريخ المنطقة الشرقية مع نهاية القرن السادس قبل الميلاد وذلك باختفاء اسم دلمون من الكتابات التاريخية عن المنطقة، ومن غير المستبعد أن تكون دلمون ومراكزها الحضارية التي بدأت في الاضمحلال منذ أوائل الألف الأول قبل الميلاد قد اندثرت بسبب غارات القبائل، ولكن نظرًا لمكانة دلمون الدينية والتجارية، ظل الاسم راسخًا لدى الآشوريين والبابليين، ومن الممكن أن تكون الإشارات المتفرقة في هذه المصادر، تتناول السكان الذين استقروا في المنطقة الشرقية بعد زوال حضارة الدلمونيين، مثل: الآراميين الذين ورد ذكرهم لدى الآشوريين والبابليين باسم الأخلامو.
 
ظهر اسم مملكة جديدة أطلق عليها اسم (الجرهاء)، حيث تنسب الروايات الإغريقية تأسيس مدينة الجرهاء إلى هجرة مجموعة من الكلدانيين إلى المدينة بعد أن طردهم الملك الآشوري سنحريب من بابل عام 694 ق.م  
 
وهناك روايات أخرى غير مؤكدة تشير إلى هجرة مجموعة من الدلمونيين إلى شواطئ سورية وتأسيس مراكز تجارية جديدة تحت اسم الفينيقيين خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وهو ما يتفق مع الاعتقاد السائد في المصادر الفينيقية والإغريقية أن أصل الفينيقيين قد يعود إلى الخليج العربي، وتحديدًا جزيرة البحرين والمناطق المجاورة، وهي روايات تنسبها المصادر الإغريقية إلى الفينيقيين أنفسهم 
ويتفق ذلك مع التسلسل التاريخي للهجرات التي تشير إلى قيام هجرات متلاحقة باتجاه الشمال باعتبارها المنفذ الطبيعي لسكان شبه الجزيرة العربية منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
 
إن الأسباب الحقيقية لقيام المدينة وازدهارها يعود إلى عوامل أخرى، فقد كان للتغير المناخي في المنطقة وبدء موجة من الجفاف دور كبير في هجرة سكانها واستقرارهم حول المناطق الغنية بالمياه، وهو ما يتوافر في واحة الأحساء منذ القدم، كما أن ازدياد هجمات القبائل دفع المجتمعات الزراعية إلى الالتفاف بعضها حول بعض لتوفير الحماية الكافية لها.
 
وتشير بعض النصوص الآشورية والبابلية إلى تعرض السكان إلى هجمات القبائل الأمورية التي برز نشاطها في الشرق الأدنى منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهناك عامل مهم ساعد على ظهور الجرهاء وارتباطها بشكل رئيس بالتجارة الدولية، وهو استخدام الجمل في نقل البضائع عبر المناطق الصحراوية، ولعل أهم هذه العوامل هو ازدهار تجارة المواد العطرية والتوابل التي كانت تستورد من ممالك جنوب شبه الجزيرة العربية وتصدَّر إلى العراق وسورية ومصر.
 
إن النصوص المتوافرة لا تساعد على تحديد هوية السكان الجدد، وهل هم امتداد للسكان السابقين أم هم مهاجرون جدد استفادوا من الفراغ السياسي لتكوين مملكة جديدة عرفت باسم الجرهاء لدى الكتَّاب الكلاسيكيين الذين يشكلون المصدر الأول لتاريخ المنطقة الشرقية منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وحتى القرن الثاني الميلادي.
 
لقد قدم الكُتَّاب الإغريق والرومان معلومات قيمة عن الجرهاء على الرغم من شح هذه المصادر، واعتماد كُتّابها على النقل عن كتابات من سبقهم من المؤلفين الإغريق، مثل: أرسطوبولس الذي شارك في حملات الإسكندر المقدوني وأرتوثنيس 267 - 196 ق.م الذي نقل عن بعض معاصري الإسكندر، ويعد سترابو وبليني وآريان وبطليموس الجغرافي من أبرز الكتَّاب الذين تحتوي مؤلفاتهم على معلومات عن الجرهاء. وعلى الرغم من تناول المصادر الإغريقية تاريخ المنطقة، إلا أنه لا يزال يكتنفه كثير من الغموض خلال الفترة التاريخية الممتدة من منتصف القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرون الميلادية الأولى، فقد ارتبطت أولى المحاولات الإغريقية للكتابة عن تاريخ المنطقة بدوافع سياسية وتجارية حين سعى الإسكندر المقدوني 353 - 323 ق.م إلى إحكام سيطرته على شبه الجزيرة العربية.
 
ذكر آريان الأسباب التي دفعت الإسكندر إلى غزو شبه الجزيرة العربية المتمثلة في عدم تقديم سكانها فروض الطاعة والولاء له، ورغبته في أن يصبح الإله الثالث للعرب، وكذلك السيطرة على واردات شبه الجزيرة العربية من البخور والتوابل التي كانت معروفة للإسكندر والإغريق منذ عدة قرون، وتأسيس مدن وموانئ على ساحل الخليج العربي، ولكن آريان يؤكد أن الهدف الرئيس لغزو شبه الجزيرة العربية كان يتمثل في رغبة الإسكندر غير المحدودة في التوسع والسيطرة على شبه الجزيرة العربية  
 
ولقرب المنطقة الشرقية من بابل وارتباط السكان السياسي والاقتصادي ببلاد الرافدين، فقد بدأت خطط الإسكندر لغزو شبه الجزيرة العربية من بابل.
 
وفي إطار الاستعدادات للقيام بالحملة الكبرى كلَّف الإسكندر أحد قادته ببناء ميناء ضخم في بابل، وتجهيز أسطول بحري مكون من ألف سفينة، وقام بجلب المواد والأخشاب وصناع السفن من الساحل الفينيقي  
 
كما قام ببناء مدينة الإسكندرية على رأس الخليج العربي التي يرجح أن تكون في جزيرة فيلكة الكويتية، حيث كانت لديه الرغبة في السيطرة على سواحل الخليج العربي، وجعله منافسًا للساحل الفينيقي  
 
وكان مخطط الحملة يقوم على غزو الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية عن طريق البر والبحر.
 
كما تزامن الاستعداد والتحضير للحملة بإرسال حملات استكشافية إلى الخليج العربي.
 
انطلقت ثلاث حملات استكشافية في الخليج العربي؛ بهدف جمع المعلومات استعدادًا للحملة الكبرى.
 
وقد قاد أرشياس الحملة الأولى التي اتجهت إلى جزيرة البحرين والمعروفة باسم تيلوس في المصادر الإغريقية.
 
أما الحملة الثانية بقيادة أندروسثينيس فقد اتجهت بمحاذاة الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية حتى بلغت شبه جزيرة قطر حسب بعض المصادر، وقاد الحملة الأخيرة هيرو، وكان هدفها الالتفاف حول شبه الجزيرة العربية والوصول إلى مصر، ولكنها توقفت عند رأس مسندم في عُمان  
 
وقد قدمت هذه البعثات الاستكشافية معلومات مفصلة عن المنطقة وسكانها، ولكن معظم هذه المعلومات لم يتم العثور عليها عدا النـزر اليسير الذي سجله بعض الجغرافيين والمؤرخين الإغريق، ويرجح بعضهم أن تكون جزيرة تيروس التي ذكر أحد التقارير أنها تقع على بُعد مسيرة يوم ونصف اليوم من مصب نهر الفرات هي جزيرة تاروت الواقعة بالقرب من خليج القطيف  
 
أدت وفاة الإسكندر المفاجئة واختلاف قادته على أملاكه إلى انهيار مشروعه الطموح بغزو شبه الجزيرة العربية، وساعد صراع القادة 323 - 301 ق.م وقيام مملكة البطالمة في مصر وفلسطين ومملكة السلوقيين في إيران والعراق والشام، إلى ازدهار المنطقة الشرقية؛ بسبب التنافس السياسي والاقتصادي بين الدولتين، وكذلك زيادة الطلب على المنتجات الشرقية، إذ قام العرب بالدور الرئيس بوصفهم وسطاء لهذه التجارة مستفيدين من موقعهم الجغرافي بين مناطق الإنتاج في آسيا وإفريقية ومناطق الاستهلاك في البحر الأبيض المتوسط. لقد استقبلت مدن المنطقة وموانئها البضائع من الهند وإفريقية وجنوب الجزيرة العربية بوساطة القوافل والسفن ومن ثَمَّ إعادة تصديرها؛ ما حقق للسكان مكاسب تجارية ضخمة جعلتهم مضرب الأمثال لدى الكتَّاب الإغريق الذين وصفوا سكان المنطقة بأنهم من أغنى سكان العالم، فقد ذكر سترابو أن سكان الجرهاء: كانت لديهم معدات وأدوات كثيرة من الذهب والفضة، مثل: الأسرّة، والحوامل الثلاثية الأرجل، والأوعية، فضلاً عن أواني الشرب، والمنازل الباهظة التكاليف المطعمة أبوابها وأسقفها بالعاج والذهب والفضة  
 
إن المعلومات المتوافرة تشير إلى صحة هذه الروايات، فبالإضافة إلى المصادر الأدبية، أظهرت التنقيبات الآثارية في ثاج  وتاروت وجود كميات ضخمة من الآثار خلال العصور الهيلينستية، ويرجع ذلك إلى اهتمام السلوقيين بمنطقة الخليج العربي، كونها تقع على أهم طرق التجارة الشرقية سواء عن طريق السفن أو القوافل التجارية، وكذلك لسهولة التحكم في هذا الطريق وتحصيل الضرائب، وعدم وجود منافس قوي  
 
ومن مصادر المنطقة الشرقية لهذه الفترة النقوش، حيث تم العثور على مجموعة من النقوش الآرامية والعربية القديمة، ويفترض بعض الباحثين أن استخدام اللغة الآرامية يعود إلى القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد؛ بسبب العثور على عدد من النقوش الآرامية في ثاج وعين جوان  
 
أما النقوش العربية التي اكتشفت مجموعة منها بالقرب من مدينة الأحساء فقد عرفت باسم (النقوش الأحسائية) نسبة إلى المدينة، وقد كتبت هذه النقوش بالعربية الجنوبية مع تميزها ببعض الرموز التي تجعلها مستقلة عن الكتابات العربية الجنوبية، وكذلك عن الكتابات العربية الشمالية، كما اختلط بعض هذه النقوش بكتابات آرامية؛ ما يدل على التأثير الآرامي على سكان المنطقة، وأول من أطلق عليها هذا الاسم هو عالم الآثار والنقوش آلبرت جام  . 
 
وقد تم تحديد الفترة الزمنية للنقوش الأحسائية من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الثاني الميلادي، لكن النقوش التي تم العثور عليها لا تتجاوز الثلاثين نقشًا، اقتصر استخدامها على كتابة شواهد القبور، وتحتوي معظم النقوش على اسم الميت وأبيه وقبيلته، وهي لا تقدم معلومات كافية عن تاريخ المنطقة، وقد نتج من دراسة 16 نقشًا أحسائيًا - بالإضافة إلى عدد من النصوص المكتوبة على العملات وكسر الفخار - الحصول على معلومات قيمة زودت الباحثين بـ 46 اسمًا أحسائيًا، مثل: سعد، وعبد، وملك، وغسن، وحمد، وطيئ، كما تم التعرف إلى بعض أسماء القبائل، مثل: قبيلة خذن التي يتبعها عشائر طبت، وجبسي، ولي، وصبحن، وقبيلة شوذب التي يتبعها عشائر عوب، ويدعب، وشمت، كما عثر على أسماء قبائل أخرى هي: سعد، وينخ، ومن غير المؤكد علاقة الاسم الأخير بتحالف تنوخ المشهور، خصوصًا أن هذا التحالف كان من أقدم القبائل التي سكنت المنطقة قبل الإسلام حسب روايات الإخباريين.
 
كما نتج من الدراسة التعرف إلى عدد من أسماء الأصنام، مثل: اللات، ومناة، وتنين، وبيش، وعتف، وأوس  . 
 
وقد دونت البعثات الأثرية عددًا من الملاحظات عن النقوش المكتشفة في ثاج، منها أن النقوش الآرامية تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وأن النقوش الأحسائية تميل إلى الكتابة العربية الشمالية أكثر من الكتابة العربية الجنوبية، وكذلك ارتباط أسماء الأشخاص الذين ذكروا في النقوش بأسماء الآلهة: اللات، ومناة.
 
كما تذكر شواهد القبور اسم القبيلة والعشيرة  .  ومن النقوش الأحسائية المكتشفة في ثاج النقش الذي اكتشفه ج. ب.
 
تدانيل من شركة أرامكو، وتم نشره في حولية أطلال  . 
 
والنقش هو شاهد قبرٍ بحالة جيدة وأحرف واضحة تدل على مكانة صاحبته وغناها.
 
والنص المكون من سبعة أسطر يسجل:
 
 شاهد وقبر،
 
 غذيت، بنت
 
 ملكت،
 
 بنت شبم،
 
 بنت، أخذت،
 
 من أهل
 
 ينخ ال.
 
ويلاحظ من النص أن صاحبته اقتصرت في سرد نسبها على أسماء النساء من دون الذكور، إذ إنهن ربما يمثلن أسماء الأم والجدة وجدة الأم، وهو دلالة على المكانة العالية للمرأة في الجرهاء التي يوجد ما يماثلها في مجتمعات شمال شبه الجزيرة العربية في عصر ما قبل الإسلام، وقد اقتصرت النقوش الأحسائية على ذكر أسماء المتوفين من دون ذكر أي معلومات عن المتوفى أو مكانته الاجتماعية؛ ما يقلل من فائدة النقش.
 
ومن دراسة المصادر الإغريقية يتضح أن الجرهاء كونت مملكة مستقلة استطاعت من خلالها التحكم في المنطقة الشرقية؛ بما في ذلك جزيرة البحرين، وهو ما يمكن استنتاجه من نص بوليبيوس الذي أشار إلى قيام الملك السلوقي أنطخيوس الثالث بحملة بحرية على الجرهائيين نجح خلالها في الحصول على كميات ضخمة من البخور، واللبان، والمر، والفضة.
 
والمعلومات المتوافرة في المصادر الإغريقية لا تكفي للتأريخ لمملكة الجرهائيين، فقد احتار الباحثون في تحديد موقع مدينة الجرهاء؛ ففي حين تُرَجِّحُ بعض المصادر وقوعها على الساحل الشرقي وتربطها تحديدًا بميناء العقير، ذكر أرسطو بولس أحد معاصري الإسكندر أن الجرهائيين ينقلون بضائعهم على رموث خشبية إلى بابل  
 
كما ذكر بليني 23 - 79م نقلاً عن بطليموس إبيفانوس 205 - 181 ق.م وجود خليج ومدينة باسم الجرهاء تمتد على طول خمسة أميال على الساحل مقابل جزيرة تيلوس (البحرين)  . 
 
ويتطابق النص مع خريطة بطليموس الجغرافي الذي حدد موقع المدينة باسم فيجيا على ساحل المنطقة الشرقية التي يرى بعض المؤرخين ربطها بثاج  
 
لكن هذه النصوص تتناقض مع رواية سترابو نقلاً عن أرتوسثنيس 276 - 196 ق.م الذي ذكر أن المدينة تقع على بُعد 200 ستديا، نحو 100كم من ساحل الخليج، وأنهم كانوا يعتمدون على القوافل التجارية في نقل بضائعهم إلى بابل  . 
 
ويرجح عدم وقوع الجرهاء على الساحل فشل الملك السلوقي أنطخيوس الثالث في إخضاع المدينة واكتفاؤه بالحصول على الجزية. أما بطليموس الجغرافي فنجده يذكر عددًا من المدن في المنطقة الشرقية التي ينسبها إلى الجرهائيين، مثل مدن: مجندناتة، وبلبانة، وستا، وجيراثا وغيرها من الأسماء الجرهائية، ولكن ينبغي الإشارة إلى وقوع بطليموس في أخطاء كثيرة عند تحديد مواقع هذه المدن على الخريطة؛ بسبب اعتماده على إحداثيات غير صحيحة بالنسبة إلى خطوط الطول والعرض، وليست الجرهاء المدينة الوحيدة التي تنسب إلى الجرهائيين، فقد ذكر بوليبيوس مدينة باسم كتانيا تتبع للجرهائيين وأن أهلها كانوا يعتمدون على الزراعة  
 
إن محاولة تحديد موقع الجرهاء من خلال المصادر الإغريقية يواجهه كثير من الصعوبات؛ بسبب تضارب هذه المصادر وندرتها، كما أن المصادر الآثارية لم يحالفها الحظ في تحديد موقع المدينة، وذلك لقلة الحفريات الآثارية في المنطقة.
 
لقد تم ربط الجرهاء بموقع مدينة ثاج؛ نتيجة للعثور على أعداد كبيرة من الفخار والقطع النقدية التي تعود إلى فترة العصر الهيلينستي، وكذلك بسبب كبر الموقع الحالي، المحاط بسور ضخم يبلغ طوله نحو 2535م، وعرضه 4.5م، وقد حددت البعثة الآثارية التي قامت بالتنقيب في ثاج طول أسوار المدينة، فبلغ طول سور المدينة الشمالي 725م، والجنوبي 685م، والشرقي 535م، والغربي 590م والسور مزود بأبراج يبعد كل منها عن الآخر نحو 40م  
كما تم تحديد خمس طبقات استيطان في المدينة تعود إلى عام 300 ق.م وحتى 300م تقريبًا، وربما يتوافق نهاية تاريخ المدينة مع ذكر المدينة لآخر مرة خلال فترة ما قبل الإسلام في حملة امرئ القيس على ثاج  
 
ويقارب ذلك وصف بليني الذي حدد قطر المدينة بنحو خمسة أميال، وتحيط بها أبراج مشيدة من أحجار الملح  
ويؤيد هذا الاتجاه العثور في ثاج على عدد من النقوش السبئية، الأمر الذي يرجح استقرار جماعات من التجار الجنوبيين في المنطقة بشكل مماثل لوجود الجالية الكبيرة من التجار المعينيين في العلا ودادان خلال الفترة نفسها  
 
وهناك احتمال أن يكون وجود التجار السبئيين؛ بسبب منافستهم للتجار المعينيين، فقد أشار سترابو إلى ارتباط التجار الجرهائيين والسبئيين عندما ذكر أنهم أغنى سكان شبه الجزيرة العربية؛ نتيجة تجارتهم الرائجة في التوابل والمواد العطرية 
ويؤكد أهمية المدينة العثور على عدد كبير من اللقى الآثارية التي تتنوع في مصادرها ونوعياتها، وتشتمل على التماثيل الطينية والأواني الفخارية والمباخر التي تم استيراد بعضها من المدن الإغريقية  
ويرى نجيل جروم أن الجرهاء كانت إحدى المدن الداخلية في واحة الأحساء؛ لخصوبة المنطقة، وقربها من ميناء يحمل اسم الجرهاء نفسه؛ ما أدى إلى اختلاط الموقع على الكتَّاب الإغريق  
 
كما يرى وجود تطابق لغوي بين الجرهاء وبلدة القارة التي تقع تحت جبل القارة المشهور في الأحساء التي كانت مركزًا تجاريًا مهمًا منذ العصور الإسلامية حتى العصر الحديث، ويرجح جروم أن تكون الجرهاء هي موقع الجرعاء التي ورد ذكرها عند الهمداني بأنها سوق لبني تميم في الأحساء تتبايع عليه العرب  . 
 
وهناك احتمال أقرب للترجيح، وهو أن تكون المصادر الإغريقية قد أطلقت اسم الجرهائيين على مدن المنطقة بشكل عام؛ ما أدى إلى اللبس في تحديد موقع المدينة، خصوصًا أن طبيعة المنطقة، وتميزها بكثرة الواحات يساعد على قيام عدد كبير من القرى والمدن، وبالإضافة إلى الجرهائيين، فقد ذكر كل من بليني وبطليموس وجود قبيلتين في المنطقة الشرقية أُطلق عليهما عطا أو (العطاويون)، وكولوبس، دون ذكر نشاطهما السياسي أو الاقتصادي  
 
ويعد النشاط الأساسي للجرهائيين هو الزراعة وصيد الأسماك؛ بسبب طبيعة المنطقة الغنية بالمياه العذبة والأراضي الخصبة؛ ما جعلها مركزًا لتصدير التمور وبعض المنتجات الزراعية لفترات طويلة، لكن بروز الجرهاء ارتبط بشكل رئيس بتجارة المواد العطرية، والتوابل، والعاج التي كانت تصل إلى مدن المنطقة الشرقية عن طريق البر والبحر.
 
فقد نشط الجرهائيون في نقل التجارة من جنوب شبه الجزيرة العربية بوساطة القوافل على الطريق المعروف باسم درب الكنهري أو الحمل الذي يخترق وسط الجزيرة مرورًا بوادي الدواسر، وقرية الفاو، ونجران، ومأرب، وشبوة  ،  ومن مراكز الجرهائيين في المنطقة الشرقية اتجهت قوافلهم إلى فلسطين وسورية والعراق، كما قاموا بنقل البضائع على المراكب الشراعية عبر الخليج العربي إلى بابل وغيرها من مدن العراق.
 
ويشير سترابو نقلاً عن أرسطوبولس إلى أن معظم تجارة الجرهاء كانت تنقل على مراكب شراعية إلى بابل، ثم تبحر إلى أعالي الفرات ليتم توزيعها على المدن الأخرى 
 
لقد شكَّل استخراج اللؤلؤ والتجارة به مصدرًا اقتصاديًا لبعض سكان المنطقة منذ العصور السومرية في بلاد الرافدين، ولكنه برز بشكل أكبر خلال العصور الميلادية؛ بسبب المعتقدات الدينية وربطه بالطقوس الكنسية، ولذلك كان للرهبان النساطرة دور كبير في تجارة اللؤلؤ، وشكَّلت شبه جزيرة قطر أحد المراكز المهمة للرهبان النساطرة، وهناك إشارات كثيرة في الكتابات المسيحية والصينية إلى هذه التجارة، وكان اهتمام ملوك الفرس بها كبيرًا؛ لكونها أحد المصادر الاقتصادية المهمة التي حرصوا على احتكارها؛ فقد قام كسرى أنوشروان بترقية البطريرك حزقائيل وألحقه بخدمته، وعثر في القطيف على شاهد قبر يذكر النص الآتي: هذه لوحة قبر، وقبر إيليا ابن إيني ابن ساسار من عائلة سهم من فخذ دئل من قبيلة ساوداب 30 
ومن الاسم يتضح أن صاحب القبر كان نصرانيًا ومن غير أهل المنطقة، وهناك عدد من النقوش التي عثر عليها في القطيف وثاج تدل على أن المتوفين من النصارى.
 
شارك المقالة:
124 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook