من حكمة الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس

الكاتب: المدير -
من حكمة الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس
"من حكمة الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس




مقدمة:

الحكمة: هذا المفهوم العظيم[1] مِن مفاهيم الوَحي الذي ورد في كتاب الله سبحانه؛ قال الله سبحانه: ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [البقرة: ???]، وقال تعالى: ? كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ? [البقرة: ???].

وقال تعالى: ? يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ? [البقرة: ???].

وقال تعالى: ? لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? [آل عمران: ???].

وقال سبحانه: ? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ? [النساء: ??].

وقال تعالى: ? وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ? [النساء: ???][2].




وكذلك ترد الحِكمة في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم[3]، فالحكمةُ عبارة عن العِلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنَفاذ البَصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصد عن اتِّباع الهوى والباطل، والحكيم مَن له ذلك[4].

ومِن حديث الإسراء والمعراج، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا عند البيت بين النَّائم واليقظان - وذكر: يعني رجلًا بين الرجلين - فأُتيتُ بطست مِن ذهب، مُلئ حكمةً وإيمانًا...))[5].

فكما أن في المخلوقات لكلِّ مخلوق حكمة خُلق لأجلها فكذلك العبادات؛ فجميع ما شرَعه الرسولُ صلى الله عليه وسلم له حِكمة ومَقصود ينتفع به في مَقصوده، فلا يهمل ما شرعه من المستحبات[6].

وفي هذا البحث نتجه إلى تناول بعض مفاهيم الحكمة عند الدكتور عبد السميع الأنيس، والذي قدم ويقدم مِن خلال كتبه ومحاضراته وخطبه للجمعة ودروسه على طلبة العلم في الجامعة والمسجد - جهودًا كبيرة في مجال الحكمة الإسلامية فهمًا وتطبيقًا.




أولًا: الإيمان: وفيه مسائل، منها:

(1) حكمة الله سبحانه:

يَستنتج الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس مِن خلال تأمُّله في قول الله: ? أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ? [المؤمنون: 115]، وقوله سبحانه: ? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ? [القيامة: 36]، أنهما تدلَّان على حِكمة الله البالغة في أفعاله وأحكامه؛ فالإنسانُ عندما خُلِق لم يُخلقْ عبَثًا، وإنَّما لحِكمة يريدها الحقُّ، ووظيفة تُناط به، وهو بعد إيجاده لم يُترَك سدًى؛ أي: مهملًا، لا يؤمر ولا يُنهى، وهو يراقَب مراقبة شديدة ليعلم هل قام بوظيفته على الوجه المرضي عند الله، أم أَهمل وقصَّر ثم أَدبر واستكبر، ثم يوجِّه الدكتور عبدالسميع الأنيس النداءَ الآتي إلى الإنسان: فيا أيها الإنسان، يا مَنْ تظنُّ أنَّ وجودك وليدُ صدفةٍ، وحياتك أنت تملكها، فتعبث فيها كيف تشاء، استيقِظْ؛ فالحياة ليستْ كما تظن، وأفِقْ من نوم الغفلة قبل ساعة النَّدامة، وقُمْ بوظيفة العبودية لله تعالى[7].




(2) الإيمان بالقدَر:

في خاطرة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأن تؤمن بالقدَر خيره وشرِّه))، يُبيِّن الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس أنَّ المؤمن الذي يؤمِن بالقدَر خيره وشرِّه مِن الله، فهو يعلَمُ علمَ اليقين بأنَّ ما يجري في الحياة إنما يجري بتَدبير الله سبحانه وتعالى؛ فالله تعالى عليم، وأفعاله وأحكامه مُنَزَّهَة عن الجَهل، وهو حكيم، وأفعاله وأحكامه منَزَّهة عن الفَوضى والعبثيَّة، وهو مُرِيد، وأفعاله وأحكامه منَزَّهة عن الصدفة، وهو عدل، وأفعاله وأحكامه منَزَّهة عن الظلم، وإنَّ الإيمان بالقدَر يفتح أبوابَ التفاؤل والأمَل، وليس مَدعاة للتقاعس والكسل[8].




(3) نفي العبثية في الكون:

يخرج الدكتور عبدالسميع الأنيس مِن تأمُّله في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((وأن تؤمن بالقدَر خيره وشره))، بنتيجة أنَّ الإيمان بالقدَر يورث السَّكينةَ والطمأنينة في نَفس الإنسان، ويشيع فيها جوًّا مِن البهجة والسرور والسعادة والأمل، فالله تعالى مالك السماوات والأرض، ويتصرَّف في ملكه بما يشاء، وإذا كان الإنسان المالِك لا يُسأل عن تصرُّفه وهو مَخلوق؛ لأنه حرُّ، فكيف يُسأل الخالق عن ذلك، وهو ملِك الملوك؟! قال تعالى: ? لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ? [الأنبياء: 23].

وهو تعالى حكيم، وأفعاله وأحكامه منزَّهة عن الفوضى والعبثيَّة.

وهو تعالى عليم، وأفعاله وأحكامه منزَّهة عن الجهل.

وهو عَدل، وأفعاله وأحكامه منزَّهة عن الظلم.

وهو مُريد، وأفعاله وأحكامه منزَّهة عن الصُّدفة.

وصدَق الله عندما قال: ? يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ? [الرعد: 39].




إنَّ المؤمن هو الذي يؤمن بالقدَر خيره وشرِّه مِن الله، فهو يَعلم علم اليقين أنَّ ما يجري في الحياة إنما يجري بتدبير الله سبحانه وتعالى، بينما الذي لا يؤمن بالقدَر فهو بالضرورة يَنسب ما يجري في الحياة مِن مصائب ومصاعب إلى الصُّدفة والعبثيَّة، فإذا نزلتْ به مُصيبة قال: لماذا هذا السَّهم من سهام المصائب قد أصابني دون غيري؟ ولماذا اختارني دون سواي؟ ولماذا ترك الجميعَ ثم نزل بي؟ فتنقلب حياته إلى جحيمٍ لا يُطاق، ويكوى بعذابين: عذاب المصيبة، وعذاب إلقاء اللَّوم على نفسه جرَّاء تلفُّظه بـ(لو)، ولماذا؟[9].




ثانيًا: العبادات: خواطر الصلاة:

مِن الموضوعات التي أَولاها الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس اهتمامًا كبيرًا مَوضوع الصَّلاة، ولا عجب في ذلك؛ فالصلاةُ ركنٌ مِن أركان الدِّين، وهي مِن أعظم الفرائض، ومن أهمِّ الواجبات والتكاليف[10].




تحدَّث الإمام الشَّافعي في كتابه: الأم عن أَصْلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ:

• (قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى): قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ? إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ? [النساء: 103]، وَقَالَ: ? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [البينة: 5]؛ أَيْ: فِيهِ ذِكْرُ فَرْضِ الصَّلَاةِ، (قَالَ): وَسُئِلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الْإِسْلَامِ فَقَالَ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))، فَقَالَ السَّائِلُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ[11].




ويضيف الإمام الشافعي:

سَمِعْتُ مَنْ أَثِقُ بِخَبَرِهِ وَعِلْمِهِ يَذْكُرُ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِفَرْضٍ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَسَخَ الثَّانِيَ بِالْفَرْضِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (قَالَ): كَأَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ? يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ? [المزمل: 1 - 3]؛ الآيَةَ، ثُمَّ نَسَخَهَا فِي السُّورَةِ مَعَهُ بِقَوْلِ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ? إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ ? [المزمل: 20] إلَى قَوْلِهِ: ? فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ?[المزمل: 20]، فَنَسَخَ قِيَامَ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ بِمَا تَيَسَّرَ وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَ بِمَا قَالَ، وَإِنْ كُنْت أُحِبُّ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدٌ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَيُقَالُ: نُسِخَتْ مَا وَصَفْت مِنْ الْمُزَّمِّلِ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ? أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ? [الإسراء: 78]، وَدُلُوكُهَا زَوَالُهَا، ? إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ? [الإسراء: 78]؛ الْعَتَمَةِ، ? وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ? [الإسراء: 78]؛ الصُّبْحَ، ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ? [الإسراء: 79]، فَأَعْلَمَه أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ نَافِلَةٌ لَا فَرِيضَةٌ، وَأَنَّ الْفَرَائِضَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَيُقَالُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ? فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ? [الروم: 17]؛ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، ? وَحِينَ تُصْبِحُونَ ? [الروم: 17]؛ الصُّبْحُ، ? وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا ? [الروم: 18]؛ الْعَصْرُ، ? وَحِينَ تُظْهِرُونَ ? [الروم: 18]؛ الظُّهْرُ، وَمَا أَشْبَهَ مَا قِيلَ مِنْ هَذَا بِمَا قِيلَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ[12].




قال ابن القيم: قال تعالى: ? وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ?، فأمرنا بإقامتها؛ وهو الإتيانُ بها قائمة تامَّة القيام والركوع والسجود والأذكار، وقد علَّق الله سبحانه الفلاحَ بخشوع المصلِّي في صلاته، فمَن فاته خشوع الصَّلاة لم يكن مِن أهل الفلاح، ويستحيل حصولُ الخشوع مع العَجَلة والنَّقر قطعًا؛ بل لا يحصل الخشوع قط إلَّا مع الطمأنينة، وكلَّما زاد طمأنينة ازداد خشوعًا، وكلَّما قلَّ خشوعه اشتدَّت عجَلتُه، حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبَث الذي لا يَصحبه خشوع ولا إقبال على العبوديَّة، ولا معرفة حقيقة العبوديَّة، والله سبحانه قد قال: ? وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ? [البقرة: 43]، وقال: ? الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ? [المائدة: 55]، وقال: ? وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ? [هود: 114]، وقال: ? فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ? [النساء: 103]، وقال: ? وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ? [الحج: 35]، وقال إبراهيم عليه السلام: ? رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ? [إبراهيم: 40]، وقال لموسى: ? فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ? [طه: 14]، فلن تكاد تجِد ذِكر الصَّلاة في مَوضعٍ مِن التنزيل إلَّا مقرونًا بإقامتها؛ فالمصلُّون في النَّاس قليل، ومقيم الصَّلاة منهم أقل القليل[13].




في مقاله: مِن خواطر الصلاة أنا جليس مَن ذكرني، يُبيِّن الدكتور عبدالسميع الأنيس أن الصَّلاة هي صِلة بين العبد وربِّه سبحانه وتعالى، فيقول: فإذا كانت مجالسة الأحبَّة ومحادثة الإخوة من مُتع الحياة، فإنَّ مجالسة الحق تعالى مِن أجمل لحَظات العمر، وهي حياةٌ للقلوب الميتة، وراحة للنُّفوس التائهة، فما أكرمك على ربِّك أيها الإنسان حين أَذِن لك أن تحطَّ رَحْلك بين يدَيْه![14].




وفِي السجود نَستشعر جمالَ الخالق سبحانه: تلك السَّجدةُ التي نستشعِرُ فيها جمالَ الخالق العظيم سبحانه، فننحني ساجدين لباهر جماله، أليس قد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في وصف ربه: ((إنَّ الله جميل يحب الجمال))؟[15].




وفي (الصلاة رحلة عبر الزمن) يُقدِّم الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس فهمًا جميلًا للغاية في مجال ربط الصَّلاة بالوقت، فيشير إلى أنَّ أجمل ما في الصلاة أنَّها رِحلة جميلة عبر الزمن، نحل معه ونرتحل، نشهد تقلُّباته، ونشاهد تغيُّراته، فنرى فيها مظاهر القدرة الإلهيَّة البديعة باديةً في صفحات هذا الكون الفسيح...

ولعلَّ مِن الحِكَم في ارتباط الصَّلاة بهذه الأوقات إحياء لهذا الشعور الضامر، وردًّا إلى فطرةِ الحياة كلَّما حاول الشيطان أن يبعدَنا عنها، وصدَق الله القائل: ? إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ? [النساء: 103].




وهذه الرحلةُ تمرُّ بعشرين محطَّة، عبر الليل والنَّهار، أشار إليها الحقُّ سبحانه في كتابه، لكنَّ أهمها خمسة، وسنمرُّ على الأزمنة الباقية مِن خلالها.




أولًا: تبدأ هذه الرِّحلة في وقت الفجر؛ وذلك لأن طلوع الفَجر آية، وشهود هذه الآية يدفعُنا أن ننهض مسرعين لنقف بين يدَيْ مَن أبداها سبحانه، معظِّمين لجلاله في صلاة الفجر، أليس قد قال الله تعالى: ? أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ? [الإسراء: 78]؟ إلى أن يَظهر الشَّفَق الأحمر، وما دام هذا الشفق ظاهرًا مرئيًّا، فالوقت وقت المغرب، فإذا غاب حَلَّ الظلامُ، وبغيابه دخل وقت صلاة العشاء الآخرة، وهي آخرُ أعمال العبادة قبل أن نستسلم إلى النَّوم العميق، والزمن الذي يستغرق العِشاءَين (المغرب والعشاء) وصَفَه الله بغسَق الليل، بقوله: ? أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ? [الإسراء: 78][16].




وعن سورة الفاتحة كتَب الدكتور عبدالسميع الأنيس سورة الفاتحة أنشودة الحَمْد، والثَّناء على الله تعالى، وتمجيده في هذا الكون الفسيح، أليس قد قال الله تعالى: ? وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? [الروم: 18]؟!

1- وهي تَتردَّد على ألسنةِ العابدين عند وقوفهم بين يَدَيْ ربِّ العالمين؛ ولهذا سُمِّيتْ بالسَّبع المثاني؛ لأنَّها تُثنى في كلِّ ركعة، أي: تُكرَّر، وتَكرارها يَزيدها حلاوةً وعذوبة.

2- وهي تحتوي على العناوين العريضة في القرآن، وتُمثِّل المدخلَ العامَّ لفَهْم أحكامه وأسراره، وتتضمَّن مفاتيحَه التي تفتح مغاليقَه، وتَفُك ألغازَه؛ ولهذا سُمَّيت بأم القرآن.

3- وهي تَشتَمِل على أصول النَّجاة التي نزل القرآن لتفصيلها، وطلب تحقيقها لنيل السعادة الأبديَّة[17].




وعن قولنا في الصلاة: سمِع الله لمن حمده، كتب الدكتور عبدالسميع الأنيس، يقول: مِن هيئات الصلاة قول المصلِّي بعد الرفع من الركوع: سَمِع الله لمن حمِده، وهي كلمات عظيمة، فيها إيماء بمعيَّة الله تعالى للمُصلِّي، الذي يسمع تراتيلَ المصلِّين، وتسبيحات الراكعين، وحمْد الحامدين، وفيها حثٌّ على مزيد من الحمد؛ ولهذا سنَّ لنا أن نقول أيضًا: ربَّنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه، وفي الحديث الصحيح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الصحابي الذي ألهمه الله تعالى هذه الكلمات في الصَّلاة: ((لقد رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكًا يَبتدِرونها أيهم يكتبها أول))، وفي هذا إشعار برفعها إلى الله تعالى، وقَبُولها لديه، وفيها إشعار بقَبُول حمدنا لله في مفتتح الصلاة عندما تَلونا: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? [الفاتحة: 2]، وفي الركوع[18].




وفِي الصلاة رحلة الحب والشوق يُبيِّن الشيخ الدكتور عبدالسميع الأنيس أنَّ المسلم في الصلاة يستقبل القبلةَ باتِّجاه الكعبة المشرَّفة متذكَّرًا طوافَ الطائفين حولها في الحجِّ، وفيها التضرُّع والمناجاة متذكرًا تضرُّع الحاجِّ ومناجاته لربِّه في عدد من مناسك الحج، وفِي الصلاة يمشي المسلم ملبيًا النِّداءَ إلى بيت من بيوت الله متذكِّرًا تلبية الحاجِّ نداءَ الله في الحج، وليعلم المسلم أنَّه بعمله هذا يؤجَر كأجر الحاج، يدلُّ على ذلك ما جاء عن أَبي أُمَامَةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ؛ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ مَشَى إِلَى سُبْحَةِ الضُّحَى كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى إِثْرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ))[19].




ويحمد الشيخ الأنيس اللهَ سبحانه على نِعمة الصلاة، فيقول: فهتفتُ في نفسي قائلًا: الحمد لله على نعمة الصلاة، فهي تحافظ على فِطرة الحياة![20].




[1] لمزيد من المتابعة عن علم الحكمة الإسلامية، ينظر: د. رواء محمود حسين: العروة الوثقى: مدخل إلى علم الحكمة الإسلامية، ط 1، دار ناشري للنشر الإلكتروني، الكويت، 1434 هـ - 2013 م، وأيضًا: د. رواء محمود حسين: شرعة ومنهاج: أصول المنهج العلمي في علم الحكمة الإسلامية، دار ناشري للنشر الإلكتروني، الكويت، 2014.

[2] د. رواء محمود حسين: حكمة بالغة: الإعلان عن علم الحكمة في القرآن الكريم، دار الألوكة للنشر، 9/ 9/ 2014 ميلادي - 15/ 11/ 1435 هجري.

[3] د. رواء محمود حسين: مدخل إلى علم الحكمة النبوية، الألوكة، تاريخ الإضافة: 12/ 8/ 1436 هجري - 31/ 5/ 2015 ميلادي.

[4] من تعليقات الشيخ شعيب الأرنؤوط على صحيح ابن حبان، ينظر: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البستي (المتوفى: 354هـ): الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (المتوفى: 739 هـ): حقَّقه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988 م، (16/ 287).

[5] ينظر: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري، المحقِّق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي)، الطبعة: الأولى، 1422هـ، 4/ 109، وانظر: مسلم بن الحجاج، أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ): المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المحقق: محمد فؤاد عبدالباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي - بيروت، بدون تاريخ، (1/ 148).

[6] ينظر: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيميَّة الحراني (المتوفى: 728هـ): مجموع الفتاوى، المحقق: عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/ 1995م، 22/ 347.

[7] د. عبدالسميع الأنيس: أيها الإنسان، موقع الألوكة، تاريخ الإضافة: 21/ 6/ 2014 ميلادي - 22/ 8/ 1435 هجري.

[8] ينظر: د. عبدالسميع الأنيس: خاطرة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأن تؤمن بالقدَر خيره وشرِّه))، موقع الألوكة، تاريخ الإضافة: 23/ 4/ 2014 ميلادي - 22/ 6/ 1435 هجري.

[9] د. عبدالسميع الأنيس: ما يجري في الكون ليس عبثًا!، تاريخ الإضافة: 17/ 6/ 2014 ميلادي - 18/ 8/ 1435 هجري.

[10] ينظر في ذلك: أبو عبدالله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: 294هـ): تعظيم قدر الصلاة، المحقق: د. عبدالرحمن عبدالجبار الفريوائي، مكتبة الدار - المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1406هـ.

[11] الشافعي أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبدالمطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ): الأم، دار المعرفة - بيروت، 1410هـ/ 1990م، 1/ 86.

[12] الشافعي: الأم (1/ 86).

[13] ينظر: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين، ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ): الصلاة وأحكام تاركها، مكتبة الثقافة بالمدينة المنورة، بدون تاريخ، ص 140.

[14] د. عبدالسميع الأنيس: من خواطر الصلاة.. أنا جليس من ذكرني، تاريخ الإضافة: 28/ 4/ 2014 ميلادي - 27/ 6/ 1435 هجري.

[15] د. عبدالسميع الأنيس: من خواطر الصلاة.. أجمل سجدة (1)، تاريخ الإضافة: 11/ 6/ 2014 ميلادي - 12/ 8/ 1435 هجري.

[16] ينظر: د. عبدالسميع الأنيس: خواطر حول الصلاة.. الصلاة رحلة عبر الزمن (2)، موقع الألوكة، تاريخ الإضافة: 11/ 6/ 2014 ميلادي - 12/ 8/ 1435 هجري.

[17] د. عبدالسميع الأنيس: خواطر حول الصلاة.. إنها أم القرآن! (3)، تاريخ الإضافة: 11/ 6/ 2014 ميلادي - 12/ 8/ 1435 هجري.

[18] د. عبدالسميع الأنيس: حول الصلاة.. سمع الله لمن حمده4، موقع الألوكة، تاريخ الإضافة: 11/ 6/ 2014 ميلادي - 12/ 8/ 1435 هجري.

[19]د. عبدالسميع الأنيس: الصلاة.. رحلة الحب والشوق!، موقع الألوكة، تاريخ الإضافة: 12/ 6/ 2014 ميلادي - 13/ 8/ 1435 هجري.

[20] د. عبدالسميع الأنيس: الصلاة تحافظ على فطرة الحياة، موقع الألوكة، تاريخ الإضافة: 23/ 6/ 2014 ميلادي - 24/ 8/ 1435 هجري.


"
شارك المقالة:
29 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook