كان المنافقون يُعرِضون عن حكم الله ورسوله، ويتحاكمون إلى غيره، حتى إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم من الإثم والعدوان، واحتاجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، كانوا يأتون إليه مُقْسِمينَ أنهم ما أرادوا بهذا التحاكم إلى أعدائه إلا إحسانًا وتوفيقًا، بأن يداروهم، ويصادقوهم، وهذا كذب واضح، ونفاق بيِّنٌ.
وهذا من أقبح الكذب، لأنه كذب في الإيمان والعقيدة، وقد بيَّن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن المنافقين هم قوم اتَّصفوا بالكذب، حتى لا يغتروا بالأيمان الكاذبة التي يُقسِمونها، وليُمَوِّهوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وسببُ هذا الادعاء الكاذب ? وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ? [التوبة: 56]. فهم يُظهِرون إيمانهم فرقًا ورعبًا وخوفًا منكم أن تفعلوا بهم كما تفعلون بالكافرين.
ومن هذه الآيات تعلم أن المنافقين إنما كانوا يوادُّون اليهود وهم أعداء المسلمين، وينقلون إليهم أخبار المسلمين، وأنهم كانوا يرتكبون أعمالًا تُغضِب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا سُئِلوا في ذلك أقسموا الأيمان المغلظة أنهم ما فعلوه، وأنهم يتَّخذون الأيمان الكاذبة (تقيَّة) خوفًا على دمائهم وأنفسهم من المؤمنين، وأنهم في الآخرة سيُقسمون كذلك أمام الله عز وجل كذبًا وتقية، كما كانوا يُقسمون للمؤمنين في الدنيا بلاهة منهم، وظنًا أن هذا سوف ينجيهم من عذاب الله عز وجل.
أظهروا أمرًا وبيَّتوا أمرًا آخر، فهم على النقيض تمامًا من أهل التقوى الذين أيقنوا أن الله رقيب عليهم، يعلم سرهم ونجواهم، ويراهم ويرى أعمالهم، فيستحيون من الله تعالى حياءً يمنعهم عن معاصيه، ويخافون ربهم من فوقهم خوفًا يمنعهم من ظلم الناس. فمراقبة الله تعالى في السر والعلانية صفة أهل التقوى، والحياء من الناس والجرأة على الله تعالى صفة أهل النِّفاق.
وتتمثَّل هذه الآية الأخيرة في واقع الناس اليوم: حيث الإعلام المضلِّل، والصحافة الكاذبة غير الأمينة، والتي تشجِّع على الفوضى والغوغائية، بعدم تحرِّيها الحقيقة، وبافتراء الكذب، وكونِ هذا الكذبِ مصدرَ رزقِهم، والله يشهد إنهم لكاذبون.
ولخطورة الكذب، وبيان أنه صفة ملازمة للمنافقين، وخَصلة من خِصال النِّفاق، وآفة من آفاته الخطيرة، فقد:
• حذَّرَنا منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
? عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ [1].
المنافق هو عالم اللسان، جاهل القلب والعمل، أعطى الناس لسانه، ومنعَ اللهَ قلبه وعمله. يقول ما لا يفعل، سريرته ليست مثل علانيته، وإنما يُهلك هذه الأمةَ كلُّ منافقٍ عليمِ اللسان.
• قال الله تعالى ناهيًا أهل الإيمان عن الاتِّصاف بهذه الآفة: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ? [الصف: 2، 3]، وقال تعالى: ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? [البقرة: 44].
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: :إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ:[8].
وقال الله تعالى: ? وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ? [المنافقون: 4].
فالمنافق يقول قولًا ويعمل عملًا مخالفًا، أو يقول مدحًا أو ذمًّا، وهو يعلم أن ما وراء هذا المدح أو الذم إلا الحصول على منفعة مادية، أو معنوية. فهو الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.