من كلمك إلى يلوه

الكاتب: المدير -
من كلمك إلى يلوه
"من كلمك إلى يلوه




الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فقد كنتُ مع العائلة عائدين من (كلمك) إلى (يلوه) برًّا لأستقلَّ عبَّارة بحريَّة تعيدني إلى إسطنبول بعد زيارة لأحد الأقارب الذي استقر به المقام هناك بسبب أوضاع البلد البائسة، وكانت العودة قبل الغروب بقليل، والطريق تحفُّه الغابات الجبلية، وفي بعض الأحيان يجاور البحر، وشاهدتُ بعض القرى القريبة والبعيدة على جانبي الطريق، وقد أنارت المساجدُ فيها أنوارها استقبالًا للظلام.

 

هاج حنين في نفسي إلى زيارة هذه القرى، والصلاة في مساجدها، ودعوة أهلها إلى طاعة الله قيامًا بواجب الدعوة الذي كُلفنا به من خلال الخطاب الإلهي لرسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في قوله له: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ? [النحل: 125]، ففي الآية أمر بتبليغ الدعوة، والأصل في الأمر أنه يُفيد الوجوب.

 

وعكَّر عليَّ جمال الحلم أني لا أجيد التركية فلا يفهمونني، ثم ازداد التعكير عندما واجهتُ نفسي بصراحة: هل هي مشاعر تديُّن حق؟ أم هي مزيج من حب الاستطلاع ومعرفة الغير؟ فهل أديتُ ما عليَّ في بلدي وانتهيتُ فيه من واجب الدعوة في مدنه وقراه لأتحوَّل إلى تركيا؟




يجب أن نفقه الدين فقهًا حقيقيًّا؛ لأنه علامة من علامات إرادة الخير بالعبد فـ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))[1]، والفقه الحقيقي يقول: إنَّ الداعية يجب أن يُقسم الخير أولًا في المكان الذي هو فيه؛ إلا أن يحول حائل دون ذلك يمنعه من العمل في بلده، فلا بأس أن يخرج، فلو فعل كل حامل فقه ودعوة ذلك لاستنارت الأرض ببركة هذا العمل، وبهذا تتحقق الكفاية في الأمة لنشر الدعوة.

 

فأهل الداعية في المكان الذي هو فيه أولى بخيره، إلا أن يُعرضوا عنه وعن دعوته؛ أو يحال بينه وبينهم...، فالدعوة فريضة ربانيَّة يحملها المؤهل وجوبًا؛ قبل أن تكونَ رغبةً جامحةً.

 

فقد أُمر بالدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم أولًا كما في الآية السابقة، وكما في قوله جل جلاله: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ? [يوسف: 108]، وفي قوله جل جلاله: ? فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ? [الشورى: 15].

 

فالقرآن الكريم خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم طالبًا منه تبليغ الدعوة للناس بصيغة الأمر التي تفيد الوجوب في الآيات الثلاث؛ فقال له: ? ادْعُ ? و? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو ? و? فَلِذَلِكَ فَادْعُ ?، وأتباعه صلى الله عليه وسلم من الدعاة في كل عصر مخاطَبون بهذا الخطاب من بعده صلى الله عليه وسلم، ومُلْزَمون بما ألزمه الله به؛ لأنهم ممن قال الله فيهم: ? أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ?؛ أي: أنا أدعو إلى الله على بصيرة وحجة، ومن اتبعني كذلك يدعو.

 

فمما ميَّز أمتنا بالخيرية اشتراكها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرف حمل الرسالة وتبليغها للناس؛ ? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون ? [آل عمران: 104]، وقد اتفقت كلمة علماء الأمة على أن الدعوة فرض؛ لقوله: ? ولْتَكُنْ مِنْكُمْ ?، فـ(اللام) للأمر، والأمرُ يُفيد الوجوبَ الكفائي، و? مِنْكُمْ ? للتبعيض؛ أي: ممن يملك المؤهلات للدعوة.

 

فهل أدَّينا ما علينا في بلادنا؟ وهل بلَّغنا كما بلَّغ صلى الله عليه وسلم؟

فقد بلَّغ رسولُنا الأكرم صلى الله عليه وسلم الدعوة، وشهدت الأمةُ لنبيها صلى الله عليه وسلم أنه قد بلَّغ يوم وقف في مثل هذه الأيام، في يوم النحر فقال: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تَلْقَوْنَ ربكم، ألا هل بلَّغتُ؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشْهَدْ، فليُبلغ الشاهدُ الغائب، فرُبّ مبلغٍ أوعى مِن سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقاب بعض))[2].

 

فعندما سأل: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟)) أجابوا: نَعَمْ، فأشهد عليهم ربَّ العزة، وقال: ((اللَّهُمَّ اشْهَدْ))؛ أي: اشهد أنهم شهدوا لي أني قد بلَّغتُ.

أما نحن؛ ففي زماننا الجهل بالدين وسوء الفهم له وعِظَم الانحراف عنه، كلُّ هذه الأمور أصبحتْ من سمات هذا الزمن، التي تشهد على تعطُّل وظيفة البلاغ والتقصير في الدعوة، لذا يلفت نظرنا النص إلى قضيةٍ تمس الحاجة إليها في هذا الزمن؛ هي: قضية البحث عن المُبلِّغ الواعي؛ بل الأوعى من السامع.

 

فقد أَمَرَ كلَّ مَن حضر هذا المشهد وسَمِع هذه المقالة أن يُبلغها مَن غاب عنها مما هو موجود في لحظة الخطاب، أو ممن هم في الأصلاب وسيأتون في قادم الأجيال، فواجبُ العالِم وطالبِ العلم تبليغُ العلم لمن لم يَبْلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهو الميثاقُ الذي أخذه الله جل جلاله على العلماء؛ ? لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ? [آل عمران: 187].

 

وبيَّن صلى الله عليه وسلم تفاوُت الناس في الفَهم، فليس كل حَمَلَةِ العلم على درجة واحدة في فَهمه، بل فيهم تفاوُتٌ في الفهم، وقد يأتي في آخر الزمان مَن يكون له مِن الفهم في الدين ما ليس لمن تقدمه، وقد يُبلِّغُ العلمَ قليلُ فقهٍ؛ فيجوز أن يُؤخذَ العلمُ عنه وإن كان فيه بعضُ جهل لمعناه وهو مأجورٌ في تبليغه، محسوبٌ في زمرة أهل العلم، فوظيفة حَامِل العلم أَن يبلِّغه، ووظيفةُ حاذق الفهم أَن يُؤَدِّيه إِلَى مَن عساه أحذق منه فِي الْفَهم والتفهيم، والتفاضُل والتفاوت في الوعي موجود.

 

والنصيحة الأخيرة: ((لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا))، قيل في معناه: الخوف من وقوع حقيقة الكفر في الأمة؛ أي: داوموا بعدي على الإسلام، وقيل معناه: لا يُكفر بعضكم بعضًا، فتستحلوا قتال بعضكم بعضًا، وقد عدَّ العلماء السابقون هذين القولين مرجوحين، ولكن ما يجري اليوم على أرض المسلمين يرجح هذين القولين على غيرهما، فظَهَر فينا مَن يُنكر المعلومَ مِن الدين بالضرورة، وظهَر مَن يستسهل التكفير للمخالف، وهو ما حمل بين طياته ضَرْبَ رقاب البعض!

 

أمَا آن لنا أن نُعمِلَ العقولَ لنفهمَ ونعي؛ فالمعاركُ التي تجري اليوم على أرضنا وقودها شباب يُكفر بعضُهم بعضًا، وخلْفَ الشباب حكوماتٌ ودولٌ تُريد تدمير الطاقات الشبابية في الأمة.

 

أمَا آن لنا أن نكونَ رشيدين ونفكِّر بأبعد من مصلحة المذهب والطائفة، لنفكرَ بوجود الأمة وخطر العودة للكفر بضرب الرقاب المتبادل؛ فعقليةُ خوارج العصر السطحية لا تُنقذ الأمة، وأمريكا وروسيا يسيئون للدين والأمة؛ حين تكون دعوات الجهاد بإيعازٍ منهما بهذه الطريقة أو تلك.

 

وبعد ذلك... ما دورُنا في الدعوة في مناطقنا ومساجدنا؟ عسى أن نجدَ مَن يشهد لنا، أو ما يشهد لنا عند الله في أننا حملنا الدين وقمنا بأداء التبليغ!




[1] رواه البخاري 1 /25 برقم 71.

[2] رواه البخاري 2 /176 برقم 1741، ومسلم 3 /1307 برقم 1679.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook