من وصايا لقمان الحكيم لابنه (الأمر بالتواضع والنهي عن التكبر)

الكاتب: المدير -
من وصايا لقمان الحكيم لابنه (الأمر بالتواضع والنهي عن التكبر)
"وصايا لقمان الحكيم لابنه:
(الأمر بالتواضع والنهي عن التكبر)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أمام بعد:

من وصايا لقمان الحكيم لابنه الأمر بالتواضع والنهي عن التكبر.

قال لقمان لابنه فيما حكاه الله عنه: ? وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ? [لقمان: 18].

 

قوله تعالى: ? وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ?؛ أي لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولكن ألِنْ جانبك وابسُط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ»[1].

 

والصعر الميل، وأصله داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، ويطلق على المتكبر يلوي عنقه ويميل خده عن الناس تكبرًا عليهم، ومنه قول عمر بن جنى الثعلبي:

وَكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ *** أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمـَـــا

 

وقول أبي طالب:

وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَـــــةً *** إِذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الرُؤُوسِ نُقِيمُهَا

 

ومن إطلاق الصعر على الميل قول النمر بن تولب العلكي:

إِنَّا أَتَيْنَاكَ وَقَدْ طَالَ السَّفَرْ ***نَقُودُ خَيْلًا ضُمَّرًا فِيهَا صُعُرْ[2]




ومن أعظم العقوبات عقوبة احتقار الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ»، قالَ رَجُلٌ: إن الرجُلَ يُحِب أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: «إن اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِب الجَمَالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَق، وغَمْطُ الناسِ»[3].

 

وبطر الحق هو رده، وغمط الناس احتقارهم، ومن صعر خده للناس فقد غمطهم.

 

من وصايا لقمان الحكيم لابنه النهي عن التكبر، قال الله فيما حكاه عنه: ? وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ? [لقمان: 18].

 

والفرق بين هذه الوصية والتي قبلها أن الأولى في معاملة الناس، والثانية في هيئته بنفسه ألا يمشي في الأرض مرحًا، وإنما يمشي كما يمشي عباد الرحمن، وفي هاتين الوصيتين الثامنة والتاسعة من الفوائد والحكم ما يأتي:

1- أن التكبر على الحق والخلق موجب لبغض الله تعالى، فإن من لم يحبه الله أبغضه، قال تعالى? وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ? [لقمان: 18]، وقال تعالى: ? إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ? [القصص: 76]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِن اللهَ يُبْغِضُ كُل جَعْظَرِيٍ جَوَّاظٍ، سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، جِيفَةٍ بِالليْلِ، حِمَارٍ بِالنهَارِ، عَالِمٍ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، جَاهِلٍ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ»[4].

 

2- من أعظم ما يعين على التواضع وترك الكبر أن يعرف العبد ضعفه، قال تعالى: ? وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ? [الإسراء: 37]، وقد أبان الله هذه الحقيقة فقال: ? وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ? [النساء: 28].

 

3- من أحب أن يرفع الله مقامه ويعلي منزلته، فليتحلَّ بخلق التواضع ويجتنب الكبر ودواعيه، قال تعالى: ? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ? [الفرقان: 63]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: فَإِنَّهُ مَا نَقَّصَ مَالَ عَبْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ بِمَظْلَمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا، وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَ فَقْرٍ»[5].

 

4- كما يكون الكبر في القلوب يكون في الأقوال والأفعال والأحوال، روى مسلم في صحيحه من حديث إياس بن سلمة ابن الأكوع أن أباه رضي الله عنه حدثه: أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ»، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[6].

 

فأعظم أنواع الكبر أن يكون في القلب، ويظهر في الأقوال والأفعال، ومنه ما يكون في الأحوال دون القلوب، قال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَار فَإِنَّ َإِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنْ الْمَخِيلَةِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ»[7].

 

وقد كان أبو بكر رضي الله عنه لعظم إيمانه وشدة تقواه لربه يخاف على نفسه من ذلك، روى البخاري في صحيحه من حديث سالم بن عبدالله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إلَيْهِ يَومَ القِيامَةِ»، قَالَ أبو بَكْرٍ: يا رَسول اللَّهِ، إنَّ أحَدَ شِقَّيْ ثَوْبِي يَسْتَرْخِي، إلَّا أنْ أتَعاهَدَ ذلكَ منه، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ»[8].

 

5- إمام المتكبرين وقائدهم إلى النار هو إبليس لعنه الله، قال تعالى ? فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ? [ص: 72 - 78].

 

6- من قصة إبليس وآدم أخذ بعض أهل العلم أن عدم الامتثال للأمر أعظم من الوقوع في النهي، لأن الأول سببه الكبر والثاني سببه الشهوة، قال ابن القيم?:قال سهل بن عبدالله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي، لأن آدم نُهي عن أكل الشجرة، فأكل منها فتاب الله عليه، وإبليس أُمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يُتب عليه.

 

قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة.

أحدها: ما ذكره سهل من شأن آدم عليه السلام وعدو الله إبليس.

 

الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة، روى مسلم في صحيحه من حديث عبداللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»[9]، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وسرق.

 

الثالث: أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي كما دلت على ذلك النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الصَّلَاةُ عَلَى وَقتِْهَا»[10].

 

الرابع: أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيءٌ من ذلك، فإنه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئًا وكان خالدًا مخلدًا في النار.

 

وفي الجملة سر هذه الوجوه أن المأمور به محبوبه، والمنهي مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه، والله أعلم[11].

 

7 - الكبرياء رداء الجبار سبحانه وتعالى، فلا أذل ولا أحقر ولا أهون ممن نازع الله فيه، قال صلى الله عليه وسلم:« قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»[12].

 

8 - أن الكبر يشمل تزكية النفس والإعجاب بها عند الآخرين، والتكبر بالنسب والمال والجاه، والقوة، والجمال، فصاحب النسب الشريف يتكبر على من ليس كذلك، وإن كان أرفع منه عملًا، والغني يتكبر بماله على الفقير، وصاحب المنصب يتكبر على من ليس كذلك، والمرأة الجميلة تتكبر على المرأة التي ليست كذلك، قال تعالى: ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? [الحجرات: 13].

 

قال صلى الله عليه وسلم: «أرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ»[13] الحديث.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ»[14].

 

9 - من أسباب الوقوع في الكبر أن يأنف المتكبر عن الاعتراف بالخطأ، ولذلك عدَّ أهل العلم البدعة في المرتبة الثانية بعد الكفر، لأن صاحبها لا يتوب منها لأنه يعظم عليه الرجوع إلى الحق والاعتراف بالخطأ، وهذا خلاف ما عليه عباد الله الصالحين، قال تعالى: ? لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ? [النساء: 172].

 

10 - من أسباب الكبر التي يجب التنبه لها والحذر من الوقوع فيها أن يكون في المرء خصالًا يرى أنه بها أفضل من غيره والأمر ليس كذلك.

 

ولذلك لما أمر الله إبليس لعنه الله بالسجود لآدم أبى واستكبر لاعتقاده أنه أفضل منه، والسبب أنه خلق من نار وآدم خلق من طين، قال تعالى فيما حكاه الله عنه: ? قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ? [الأعراف: 12].

 

قال ابن كثير رحمه الله: وقول إبليس لعنه الله فيما حكاه الله عنه: ? أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ? من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة؛ لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول؛ يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بيَّن أنه خير منه بأنه خُلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى: ? فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ? [الحجر: 29]، فشذ من بين الملائكة بترك السجود، فلهذا أبلس من الرحمة، أي آيس من الرحمة، فأخطأ قبحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة، ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة[15].

 

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم»[16].

 

11- ومنها تحريم الاختيال وأنه موجب للحرمان من محبة الله، قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ، يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» [17].

 

12- ومنها تحريم التفاخر، قال في المعجم الوسيط: فخر الرجل - فخرًا وفخارًا، وفخارة تباهى بماله وما لقومه من محاسن، ويُقال: «تفاخر» تعاظم وتكبر - والقوم فخر بعضهم على بعض[18].

 

أما الكبر فقد قال الغزالي رحمه الله:«هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير»[19]، وقال بعضهم: «هو استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له»[20]، والتعريفان يصبان في معنى واحد.

 

أما معنى الاختيال، فيقال: اختال الشخص: تكبر وتصرف بطريقة تدل على التباهي، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ? [لقمان: 18].

 

اختال في مشيه تبختر، تمايل كبرًا. [21]




قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَي إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»[22].

 

3- استثنى أهل العلم من مظاهر الكبر التي لا يؤاخذ عليها المرء حالتان:

الأولى: أن يكون ذلك طبيعة في الشخص لا يقصد لها ولا يتكلف لها كبعض أنواع المشي وأضرب الكلام.

 

والثانية، والثالثة: الاختيال بين الصفين لإظهار عزة الدين وعلو الإيمان، وعند الصدقة؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَإِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ الَّتِي فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ»[23].

 

قال أبو سليمان الخطابي: معنى الاختيال في الصدقة أن تهزه أريحية السخاء فيعطيها طيبة نفسه بها من غير مَنٍّ ولا أذى، واختيال الحرب أن يتقدم فيها بنشاط نفس وقوة جنان. قال أبو عبيد: الاختيال أصله التجبر والكبر والاحتقار للناس، والاختيال في الحرب أن تكون هذه الخلال من التجبر على العدو فيستهين بقتالهم وتقل هيبته لهم، فيكون أجرأ عليهم، وفي الصدقة أن تعلو نفسه وتشرف فلا يستكثر كثيرها وهذا مثل الحديث المرفوع، «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا[24]»[25].

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




[1] سنن أبي داود برقم (4084) من حديث جابر بن سُليم، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في السلسلة الصحيحة برقم (3422).

[2] أضواء البيان للشنقيطي (6/ 549).

[3] صحيح مسلم برقم (91) ، من حديث عبد اللَّه بن مسعود?.

[4] صحيح ابن حبان برقم (72) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في الترغيب والترهيب ثم تراجع وضعفه في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (2304)، وأعل ذلك بأنه منقطع فإن سعيد بن أبي هند لم يلق أبا هريرة رضي الله عنه وصححه الشيخ شعيب الأرنؤوط في تخريج صحيح ابن حبان برقم (72).

[5] مسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه (29/ 561 – 562) برقم (18031)، وقد اختلف في تصحيحه وتضعيفه لاختلافهم في يونس بن خباب الأسيدي، فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه، وحسنه محققو المسند.

[6] برقم (2021).

[7] مسند الإمام أحمد (34/ 238) من حديث جابر رضي الله عنه برقم (20635)، وقال محققوه: حديث صحيح.

[8] صحيح البخاري برقم (5784)، وأخرجه مسلم (2085) بدون ذكر أبي بكر.

[9] برقم (91).

[10] أصله في الصحيحين من حديث عبداللَّه بن مسعود رضي الله عنه صحيح البخاري برقم (527)، وصحيح مسلم برقم (85).

[11] من أراد الاستزادة فليراجع الفوائد لابن القيم (ص158 – 170).

[12] صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنه برقم (2620) وسنن أبي داود برقم (4090) واللفظ له.

[13] مسند الإمام أحمد من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (37/ 538) برقم (22903)، وقال محققوه: حديث صحيح.

[14] سنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (3955)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 254) برقم (3100).

[15] تفسير ابن كثير? (6/ 265).

[16] برقم (2996).

[17] صحيح البخاري من حديث عبد اللَّه بن عمر? برقم (5790)، وصحيح مسلم (2088).

[18] المعجم الوسيط (ص676).

[19] إحياء علوم الدين (3/ 345).

[20] تهذيب الأخلاق للجاحظ (ص32).

[21] معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 714).

[22] صحيح مسلم برقم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

[23] (39/ 162) برقم (23752)، وقال محققوه: حسن لغيره.

[24] معجم الطبراني الكبير (3/ 131) برقم (2894) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (4/ 168) برقم (1627).

[25] شرح السنة للبغوي (12/ 321- 322) بتصرف.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook