نـزاع القبائل بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
نـزاع القبائل بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

نـزاع القبائل بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
سكن مكة المكرمة قبل نـزول إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر أقوام من العرب العماليق على أغلب الروايات  ،  وقيل في أصولهم إنهم من نسل عملاق بن أرفخشذ   بن سام بن نوح عليه السلام  .  ويبدو أن بداية سكنى مكة المكرمة كانت فوق جبل أبي قبيس، بوصفه موضعًا مرتفعًا يشرف على بطحاء مكة المكرمة ولا خطر على قاطنيه من السيول التي كانت تلم بالمنطقة من آن إلى آخر  ،  وقد سكنه بعض بني جرهم القحطانية في البداية، وهم أول البطون من القبائل الذين أووا إلى بطحاء مكة المكرمة من حول حرم البيت بعد تكشف موضع بئر زمزم المباركة للطفل إسماعيل وأمه هاجر
وثمة رأي آخر في هذا الصدد، يقول إن الجراهمة لم يكونوا مقيمين فوق جبال مكة المكرمة أو بظاهرها، يلتمسون الكلأ الشحيح لرعيهم، حين هجرة إبراهيم عليه السلام بأهله إلى المكان، بل كانوا في طريق هجرتهم شمالاً نحو بلاد النهرين أو بلاد الشام التماسًا للماء  ،  وقد حمى الله سبحانه الوفد الصغير من أهل إبراهيم من سطوة الجرهميين به أو استئثارهم بالماء دونه  ،  بل قذف في قلوبهم إجلال الأم الضعيفة وطفلها وإحلالهما المنـزلة الكريمة بينهم، والاعتراف لهما بحقهما في الماء المبارك. وهكذا نشأ إسماعيل عليه السلام بين الجرهميين عزيزًا كريمًا، وأخذ عنهم لغتهم (العربية الجنوبية)  ،  ثم أصبح شابًا بين ظهرانيهم، وغدا فيهم فارسًا ونبَّالاً   وصيَّادًا ذا بأسٍ شديد
تزوج إسماعيل عليه السلام من جرهم مرتين  ،  ولم يطل به المقام كثيرًا مع زوجته الأولى، واسمها - حسب رواية بعض المصادر - حرة بنت سعد بن عوف الجرهمي  ،  وهي التي يروى أن أباه قد أمره بتطليقها، لنقص في خلقها ومروءتها، ثم تزوج بعدها زوجته الثانية واسمها (السيدة) وهي ابنة سيد جرهم مضاض بن عمرو  ،  وقد رزق منها أولادًا ذكورًا كثيرين  .  وبعد وفاته عن عمر بلغ نحو 135 عامًا   ودفنه إلى جوار أمه في الحِجْر، ولِّي أمور البيت الحرام من بعده أول أبنائه ويدعى نابتًا  ،  ثم من بعده أخوه قيدار بن إسماعيل، وفي رواية أخرى قيل إن خليفة إسماعيل عليه السلام الأول كان ابنه قيدار ثم من بعده أخوه نابت بن إسماعيل
وعلى أثر تزايد هجرة الجراهمة إلى أنحاء مكة المكرمة وتزايد نفوذهم، تمكنوا من الظفر بأمر ولاية مكة المكرمة  ،  وقد كان دافعهم إلى ذلك سعيهم للاستفادة والنفع من زوار البيت وأرباح تجارة مكة المكرمة الناشئة، فكانت السيادة الأولى فيهم على حرم البيت لسيد جرهم وصهر إسماعيل عليه السلام مضاض بن عمرو الجرهمي، كما كان لقبيلة قطور نصيب من هذا الأمر بزعامة سيدهم السميدع  ،  وإن ظلت للجرهميين اليد العليا عليهم، بينما ظلت لبني إسماعيل - آنذاك - مكانة بين القوم دون الحكم والزعامة
ومع مرور الوقت اغترت جرهم بالثراء الذي نالها من التجارة التي كان يسوقها عمَّار البيت والنذور التي كان يحملها زواره  ،  فطغت وتجبرت على غيرها من قبائل العرب، فلم يلبثوا أن خلت قلوبهم من مبادئ التوحيد التي جاءت بها الحنيفية السمحة، دين إبراهيم عليه السلام، وأصروا فقط على ظاهرها من شكلية الطقوس دون جوهر العبادة فيها، وذلك ابتغاء المنفعة المادية من وراء سدانة البيت لذاته  ،  لا تقربًا لله سبحانه وتعالى وخدمة لوفوده وضيوفه. ولم يلبث أبناء إسماعيل أن طالبوا بمقاسمتهم السيادة من جديد على حرم البيت الحرام، بعد أن ساد أخوالهم بنو جرهم بمفردهم عدة قرون، ولكن ذلك لم يتحقق إلى حين
كانت الكلمة في بني إسماعيل - آنذاك - لأبناء إياد ومن بعدهم في المضريين، ثم في بني إياس وبني ضبة وبني سعد، ثم آلت من بعدهم إلى بني أسعد بن خزيمة، حتى وصلت في النهاية إلى بطن زرارة وكان ذلك مع نهاية الألف الأول قبل الميلاد   لم يدم الأمر لهم طويلاً حتى وثبت قبيلة خزاعة على زعامة مكة المكرمة  ،  وأصبحت لهم السيادة فيها بلا منازع لفترة تجاوزت ثلاثة قرون، وسيتم تناول ذلك بشيء من التفصيل على الشكل الآتي:
 

 زعامة خزاعة

خزاعة هي إحدى قبائل عرب اليمن الأزدية التي نـزحت من بلادها إثر سيل العرم، وقد نـزلت بعض بطونهم بظاهر مكة المكرمة منذ نهايات القرن الثاني قبل الميلاد. ومع مرور الوقت توالت هجرات بطون أخرى من خزاعة إلى منطقة مكة المكرمة، إذ سكن بعضهم منطقة بطن مَرّ (وادي فاطمة) بالقرب من مكة المكرمة، وكان ذلك خلال القرن الثاني الميلادي   ونتيجة لتزايد عدد الخزاعيين في منطقة مكة المكرمة، ونظرًا لما كان لهم من القوة والنفوذ، سرعان ما طمع بعض شيوخهم في المكاسب التي تجنيها جرهم من وراء سدانة البيت، ولا سيما أن مسلك جرهم في الاستغلال والنهب كان قد تفشى خبره في العرب، وبلغ الأمر ذروته حين زعمت خزاعة أن جرهمًا قد تعرضت للقوافل التجارية المارة بالمنطقة، ومنها بعض قوافل خزاعة، فكانت هذه هي الذريعة التي استندت إليها خزاعة في غزوها لمكة المكرمة
وفي هذا الصدد ثمة رأيان: يقول أولهما إن الخزاعيين المقيمين بظاهر مكة المك   رمة قد طلبوا العون من بني قومهم الأزد، ومن ثم كانت حملة التبع اليماني عمرو بن عامر بجيش كبير على الجرهميين بمكة المكرمة وتمت لهم بذلك السيطرة عليها  .  أما الرأي الآخر - وهو ما يبدو أقرب إلى فحوى أغلب الروايات في هذا الخصوص - فهو القائل إن الغلبة على الجرهميين كانت للخزاعيين القادمين من الشام تحت قيادة شخصية شهيرة كثر حولها الجدل هي شخصية عمرو بن لحي الخزاعي   الذي كان متكهنًا نصبه قومه ملكًا عليهم فقادهم إلى خلع جرهم عن الزعامة في مكة المكرمة  ،  ففعلوا بذلك ما فعله بنو جرهم من قبل، حين أزاحوا بني إسماعيل، وأيًا كان الأمر فقد خلص أمر السيادة على مكة المكرمة قرابة القرن الثالث الميلادي للخزاعيين   الذين كانوا قد استعانوا على الجرهميين ببعض العرب العدنانيين من بني إسماعيل، وهم قبيلة كنانة من مضر التي ظفرت جراء نصرتها لخزاعة ببعض الامتيازات الخاصة بالنسك هي الإجازة والإفاضة والنسيء
وعلى أثر السيادة الكاملة لخزاعة على مكة المكرمة تفرق الجرهميون، فظل بعضهم مقيمًا في ظاهر مكة المكرمة، ثم لم يلبثوا بعد حين في فترة ما من بدايات القرن السادس الميلادي، أن لحقوا بأهلهم في اليمن  ،  حيث موطنهم الأصلي
كانت مكانة عمرو بن لحي الخزاعي في قومه لا تنازع، فبعد انتصار قبيلته على الجرهميين أصبحت معظم مقدرات تجارة مكة المكرمة تحت إمرته، مما زاد في مكانته وشرفه  .  وينسب إليه أنه كان ينحر للحجيج ويطعمهم طوال فترة موسم الحج. ومع مرور الوقت ازداد بن لحي تجبرًا وشططًا، إذ تنسب معظم المصادر إليه أنه كان أوّل من بدل حنيفية إبراهيم إلى عبادة الأصنام  ،  ومن أهمها الصنم هبل  ،  الذي صار أهم أصنام مكة المكرمة منذ ذلك الوقت  .  كما قيل إنه استقدم أغلب الأصنام من جنوب الشام وأقامها من حول الكعبة المشرفة
وإلى جانب تلك المعبودات القبلية المنقولة عبدت في مكة المكرمة - آنذاك - أصنام وأوثان أخرى يرتبط بعضها بقصص محلية، مثل إساف ونائلة اللَّذَين نصبا عند الصفا والمروة، كما قُدست بعض الروابي الصخرية في المنطقة كاللات في الطائف، ومناة التي كانت تخص قبيلة هذيل، كما قُدست العزّى وتبوأَت مكانة بارزة عند قريش  
ويروى في هذا الشأن كذلك، أن عمرو بن لحي قد أحضر إلى مكة المكرمة بعض الأصنام من منطقة ساحل جدة  ،  كما جد في إرسال الرسل إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب، يطلب من حكامها ورؤوس عشائرها إرسال تماثيل لأصنامهم لتنصب حول البيت، فأجابوه إلى ذلك  ،  سعيًا لنوال المقاسمة في شرف تمثيلهم في حرم البيت العتيق.
لقد كانت بعض الأصنام التي نصبت في مكة المكرمة من أصول تتصل بتقديس الأسلاف ممن كان لهم فضل على عشائرهم وقومهم. ومثال ذلك (ودّ) الذي يروى أنه كان في الأصل أحد الصالحين من قوم نوح، عاش في بلاد الرافدين، فلما مات أحب قومُه وضع تمثال له بينهم ليذكرهم به، وكذلك تماثيل سُواع ويغُوث ويعُوق ونَسْر التي ورد ذكرها جميعًا في القرآن الكريم ﮢﮥﭕﮣﭔﭩﰵﮡﭓﭘ ﮧﯰ ﭯﮣﯜﮨﯢﰳﮒﯹ ﰵﮥﭓﭩﰠﮗﮩﭷﮤﭣﰵﭟﱇ ﮢﮥﮧﯰ ﭯﮣﯜﮨﯢﰳﮒﯹ ﮢﮥﯛﮤﭓ ﮢﮥﮧﯰ ﯪﰰﮡﮥﭓﰷﮉﭕ ﮢﮥﮧﯰ ﯔﮤﱄﰵﮡﮇﯫ ﮢﮥﯔﮤﰹﰴﮡﭝﮣ ﮢﮥﮃﮞﯴﱅﯟﮊﭓ ﰙﰝﰜﰘ  ،  فلما طال عليهم وعلى عقبهم الأمد وضلوا أو نسوا أصل هؤلاء، أصبحوا بينهم أصنامًا تعبد
وليس هناك من سبيل للجزم بدوافع عمرو بن لحي الخزاعي الحقيقية من وراء ذلك العمل، وإن كانت مخالفة جرهم وبني إسماعيل في معتقداتهم الحنيفية، لإبطال ما بقي من مظاهر سيادتهم على مكة المكرمة، فضلاً عن أن تنشيط تجارة مكة المكرمة مع مناطق الشام وشمال الجزيرة العربية لتصبح متوازنة ومتوازية مع تجارة اليمن والحبشة من أهم هذه الدوافع وراء ذلك
وإلى جانب الأصنام التي بلغ عددها ما يقارب ثلاثمئة صنم، كبيرة الحجم نسبيًا، والمنصوبة من حول الكعبة المشرفة لكثير من المعبودات والأوثان، فقد كانت تصنع لمعظمها صور ونماذج صغيرة، سواء من الخشب أو الحجر أو الطين، بل من عجوة التمر كذلك، وتباع في الأسواق أو بجوار أمكنة انتصاب أصنامها الأصلية، لتكون تذكرة لتابعيهم وعبّادهم، يحفظونها في منازلهم، أو ينقلونها إلى بطاحهم وبواديهم، كذكرى لرحلة الزيارة السنوية أو الموسمية إلى مكة المكرمة
كما أُخذت الزعامة في مكة المكرمة من جرهم حدث الأمر ذاته مع خزاعة، ولكن بطريقة مختلفة، فلقد انهارت مكانتهم وقل شأن سادتهم من خلفاء عمرو بن لحي، فكان أن آلت الزعامة فيهم في آخر عهدهم بها، وذلك قرب منتصف القرن الخامس الميلادي  ،  إلى حليل بن سلول الخزاعي  .  وقد قيل: حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي   الذي صاهره الشاب قصي بن كلاب زعيم قريش الواعد، والعائد آنذاك من بادية الشام، فتزوج من ابنته (حبى) التي أنجبت له أولاده عبدالدار وعبدمناف وعبدالعزّى وعبدقصي، فعاش قصي وأولاده في يسر وكرامة في حياة حليل  ،  ثم آل الأمر في مكة المكرمة من بعد ذلك إلى أحد أبناء حليل وهو عمرو بن الحارث (المكنى أبا غبشان) الذي تصفه الروايات التاريخية بأنه لاهٍ وعابثٌ، فهوت تصرفاته غير المتزنة وأفعاله غير المسؤولة بمكانته في أعين العرب؛ ما جعلهم يرون أنه لا يستحق ما كانوا يدفعون لأبيه وأسلافه من الرَّسْم المعلوم لدخول حرم البيت في مواسم النسك  ،  فما كان من قصي إلا أن استغل هذا الوضع المتردي. وقد قيل في ذلك عدد من الأقوال، من بينها أنه أقنع أهله من رؤوس بني إسماعيل بأنهم أحق بعودة الولاية على البيت إليهم، فساندوه  ،  أو أنه تحايل على أخذ حق سدانة البيت من أبي غبشان، ويقال إن ذلك تم في مقابل متاع بخس يقوَّم بدراهم معدودة  ،  وأن قصيًا قد أشهد عليه كي يوثق ما تم، وهكذا تمكن قصي - بمساعدة من قبيلته ذات الكثرة والغلبة - من مواجهة خزاعة فسلبها مقومات عزها وثرائها، واستتب الأمر في نهايته لقصي وكنانة قسرًا. وبذلك ضم قصي السيادة على الحرم إلى ما كان لقومه من كنانة من امتيازات سابقة، كانت تتمثل في إجازة حج الحجيج وقيادة إفاضتهم إلى المشعر الحرام فضلاً عن إقرار النسيء (إقرار حل شهر من أشهر الحرم وإحلاله بآخر)  ،  أما الخزاعيون فقد ارتحل من لم يَقوَ منهم على الإقامة بمكة المكرمة إلى بطن مَرّ في وادي فاطمة، حيث انضمت إليهم فيما بعد بطون من خزيمة بن مدركة وحالفوهم وعاشوا معهم هناك 
 
 

مكة القرشية

 
يبدو من تسلسل النسب القرشي أن فهر بن مالك من ولد النضر بن كنانة كان سيدًا لقريش، وتواترت الزعامة في عقبه حتى وصلت من بعد أجيال ستة إلى قصي بن كلاب في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريبًا 
أما عن أصل التسمية (قريش)، فقد قيل عنها روايات مختلفة، أشهرها أنها لقب تلقب به النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر  ،  جد قريش، لبطولته ومهارته، وإغاثته المحتاج، وقيل إنه لقب لحفيد النضر فهر بن مالك بن النضر  ،  أو أن شخصًا يدعى قريشًا كان دليل قوافل القوم على زمن النضر  ،  فكان عندما يُرى تعرف قوافل قريش، كما قيل في ذلك عدة أقوال  ،  حصرها بعضهم فيما يصل إلى عشرين قولاً  ،  ولكن الراجح من بين هذه الأقوال أن تسمية قريش جاءت من بعض الاشتقاقات اللغوية لكلمة (قرش) التي ارتبطت معانيها بالقوم نتيجة لتجمعهم، أي من التقرّش في الحرم ومن حول الكعبة المشرفة، فالتقرّش لغة هو التجمع 
 
أصبحت مكة المكرمة قوة محلية يحسب لها حسابها بدءًا من عهد قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة  ،  المؤسس الحقيقي للكيان القرشي المكي في فترة قبيل الإسلام، فقد جمّع قريشًا وحزم أمرهم على كلمة واحدة، لذلك سمّي مجمّعًا  ،  وفي ذلك قال الشاعر حذافة بن غانم القرشي:  
قصي أبوكم كان يدعى مجمعًا     بـه جمع الله القبائل من فهر
نـزلت منذ تلك الفترة أهم أقسام قريش في وادي مكة المكرمة وفي بطاحها من حول الكعبة المشرفة، وهم قريش البواطن والأبطحيون  ،  وفيهم العصب والشرف والمجد ولهم سدانة البيت والقيام على شؤون الحجيج، بينما سكنت بعض بطونهم بظاهر مكة المكرمة وهم الأعراب   وأهل بادية مكة المكرمة. وبينما ارتحلت فروع قليلة من قريش إلى خارج مكة المكرمة، فقد ساكن القرشيون بمكة المكرمة بعض بني عمومتهم من كنانة، وكذلك بعض من بقي فيها من خزاعة وغيرهم من بعض بطون العرب الأخرى
سمي قصي بن كلاب، واسمه الأصلي زيد  ،  باسمه الذي اشتهر به، وهو (قصي)، لأنه نشأ في أرض قاصية عن مكة المكرمة موطن قومه  ،  إذ قضى طفولته وشبابه الأول في بني عذرة. وكانت أرضهم في أقصى الشمال، عند التقاء بلاد الشام بالجزيرة العربية، إذ كانت أمه فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سيل قد اتخذت بعد وفاة أبيه زوجًا من كبرائهم يدعى ربيعة بن حرام  ،  فرحلت لتعيش معه في قومه، مصطحبة ولدها معها. ويقال إن قصيًا عندما شب عن الطوق عُيّر من بعض فتيان القوم بغربته، فأطلعته أمه على شرف أصله وكرم نسبه، فكره الغربة وآثر اللحاق بقومه في مكة المكرمة 
لقد كان لنشأة قصي بالقرب من التخوم الجنوبية لبلاد الشام أثرها الكبير في اطلاعه على كثير من تنظيمات المدن، وأساليب تسيير أمورها من النواحي الإدارية، وربما أن ذلك هو ما حدا به إلى تقسيم وادي مكة المكرمة أرباعًا من حول مطاف الكعبة المشرفة، وبدأ ببناء بيت كبير يفتح بابه على الكعبة المشرفة، وجعل منه مقرًا لرأي قريش وندوة لكبرائها  ،  وهو ما سمي فيما بعد بـ (دار الندوة). وقد كانت منذ بداية عمارتها في عهد قصي دارًا للحكم لتنفيذ جليل أمور قريش وصغيرها على حد سواء، ففيها تعقد ألوية القتال وتقر الأنكحة، ويتم التشاور في كل ما يخص القوم ويتصل بمعطيات حياتهم وعلاقاتهم بالآخرين 
وينسب إلى قصي كذلك الاهتمام الكبير بكل تفاصيل نسك الحجيج والنظر فيما يصلحها، ومن ذلك ما ورد من أنه كان أول من أوقد نارًا كبيرة في منى ليلة عرفة، حتى يهتدي الناس بضوئها، فتيسر عليهم السير في الزحام الشديد وقت النفرة إلى مزدلفة، كما نظم قصي أمور الرفادة، فقد فرض على كل بيت من قريش خرجًا  ،  لكي يصنع به طعامًا لمن يحتاج من الحجيج في منى
سكن بنو قصي وذووه وبطون قريش العصب بطن الوادي من حول البيت الحرام، أما من لم يتسع لهم المجال فقد سكنوا شعاب الجبال بظاهر مكة المكرمة، وقد تُركَت مسافات للمارة بين البيوت المحيطة بالمطاف تيسيرًا على الناس في الوصول إلى الحرم وأداء النسك. ولا حاجة للخوض هنا في تفاصيل مخطط مكة المكرمة وأرباعها ومواقع بيوت كبرائها، وهو أمر أفاضت في ذكره دراسات أخرى كثيرة  ،  وحسبنا الإشارة إلى أن كل بطن من بطون قريش كان له أرباع خاصة به تقوم فيه منازل أهله ومساكن من يلتحقون بهم من الموالي والأتباع، حتى لقد ظل كثير من الأبواب المؤدية إلى الكعبة المشرفة بعد ذلك ولفترات طويلة، تدعى بأسماء تلك البطون التي كانت بيوتها قريبة منها. كما يجدر بالذكر في هذا المجال الإشارة إلى طابع المخططات الدائرية أو البيضاوية التي بنيت عليها بيوت أرباع قريش من حول الكعبة المشرفة في تلك الفترة؛ لكي لا تكون مربعة فتشابه الكعبة المشرفة، وقد دام هذا الطراز من المنازل من حول الكعبة المشرفة حتى نهاية القرن السادس الميلادي 
استكمل تخطيط مكة المكرمة بتحديد مواضع معينة للأسواق المحلية، وزاد الاهتمام بحفر الآبار وتنظيفها ليتيسر إمداد المياه لقريش ومساكنيهم والآلاف من زوار مكة المكرمة وعمَّارها في مواسم النسك، وكانت زمزم المباركة - آنذاك - لا تزال مطمورة، حتى أعاد حفرها عبدالمطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم  وهكذا استقرت منذ عهد قصي بن كلاب - مجمع قريش - تنظيمات فريدة في قريش تتعلق بأساليب الحكم والقيادة ونظمها، احتفظت بكثير من التقاليد القبلية مع تبنيها كثيرًا من أطر الشورى والقيادة الجماعية التي يسود فيها الزعماء والحكماء من رؤوس القوم، ويتوازعون فيما بينهم أطر السيادة والشرف الفعلية والاسمية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية كلها، وكل ما كان يكتنف هذا المجتمع المتفرد من فعاليات، ودون أن يكون هناك ملك أو حاكم بعينه 
ويرى بعض الباحثين تأثر هذا النظام بنظم دويلات المدن التي ولدت في بلاد الرافدين القديمة وتبنتها بعد حين ممالك ودويلات بلاد الشام، وذلك ما تأثر به قصي نفسه الذي قضى صباه وبواكير شبابه هناك  .  ويتميز نظام دويلات المدن بكثير من مظاهر التنظيم الإداري الراقي ومشاركة كبار مواطني الدويلة في تسيير أمورها، إلا أن هذه المشاركة ظلت دائمًا صورية ومحدودة، وظل القياد الحقيقي لأمور الدويلة في يد حاكمها وحده
وعلى الرغم من ذلك يسجل لنا التاريخ بعض محاولات فاشلة للتملك في مكة المكرمة، من أشهرها سعي عثمان بن الحويرث (الملقب بالبطريق)  ،  وهو من بني أسد بن عبدالعزى   في طلب العون من قيصر الروم وبعض ملوك الشام لتنصيبه ملكًا على مكة المكرمة. وكاد مسعاه يتم لولا تدارك سادة قريش وبعض من أهل عثمان نفسه وأبناء عمومته الأمر في لحظاته الأخيرة، وذلك حين أعلن قائلهم كلمته التي صارت مثلاً في الآفاق: "إن قريشًا لقاحًا لا تُملَك ولا تُملَّك"  .  لقد تمتعت مكة المكرمة آنذاك بالأمن والأمان الغالب على ربوعها وجوارها، فضلاً عما أتاحته أنشطة حجها وزيارتها من تشعب في المجالات وتعدد في الأنشطة المرتبطة بذلك التي أتاحت بدورها مجالات مختلفة للشرف والسيادة والزعامة اتسعت لكثيرين من وجوه القبائل والعشائر. وكانت الغالبية من وجوه القوم على درجة من الوعي وتدرك أن نشوب المنازعات سوف يفتُّ في عضد قريش جميعها ويقوض مكانتها وسيادتها لدى العرب بما ينعكس سلبًا على كل مناحي الحياة في مكة المكرمة ويهدد أمن البيت، فلا يكون آمنًا لزواره وعماره فيفقد الجميع أهم موارد رزقهم وأغلى معطيات مكانتهم
 
لذلك استقر الأمر بينهم على وضع امتيازات الشرف ذات الاعتبارات الفعلية أو الاسمية معًا، وهي السقاية والعمارة (رعاية الآداب العامة وحفظ الأمن داخل حرم البيت)، والعقاب (لواء الحرب)، والندوة والرفادة والحجابة (حفظ مفتاح الكعبة المشرفة وفتح بابها)، والسدانة (السيادة العامة على حرم البيت)، والأشناق (تسوية أمور الديات والمغارم)، والسفارة والأعنة (قيادة الفرسان)، والأيسار (ضرب الأزلام والأقداح)، وغيرها، في أهم عشرة بيوت من قريش، وهي: هاشم وأمية ونوفل وعبدالدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجُمَح وسهم، بل كانت بعض هذه البيوت تحوز أكثر من امتياز منها معًا، بينما تتولى بيوت أخرى أحد هذه الامتيازات بمفردها
لقد كانت اجتماعات دار الندوة الدورية (أيام السبت من كل أسبوع)، أو الطارئة (حين يجد أمر يحتاج إلى الحسم العاجل)، بمن كانت تضمهم من حكماء قريش وسادتها كافية للفصل في شؤونهم، وحسم النـزاعات فيما بينهم أو مع غيرهم، وكذلك لإنفاذ أمور تجارتهم وحلفهم وحربهم وكذلك زواجهم   وكل ما يعن لهم من قضايا أخرى  ،  حتى ليرى بعض الباحثين في دورها الذي لعبته صورة مماثلة لأدوار مجالس المسود في المجتمعات السبئية والقتبانية والمعينية في اليمن القديم 
توزعت من بعد وفاة قصي مظاهر الشرف والسيادة التي حازها بين أبنائه، وفاز من بينهم أكبرهم عبدالدار بأكبر نصيب. ومع الوقت وخشية حدوث صراعات بين فروع بيت قصي   - وأهمها فرعا عبدالدار وعبدمناف (واسمه الأصلي المغيرة)  ،  خصوصًا أن الفتن قد بدأت تدب بينهم بالفعل، وانقسموا أحلافًا وتجهزوا للقتال فيما بينهم - آثروا الصلح  ،  واقترعوا، فصارت السقاية والرفادة لبني عبدمناف، بينما ظلت الندوة (أي الزعامة السياسية الرسمية) ومعها الحجابة واللواء لبني عبدالدار، ولم تلبث زعامة بني عبدمناف أن تنازع عليها فرعان يمثلهما الأخوان التوأم هاشم وعبدشمس  ،  حتى خلصت الرئاسة للأول بغلبة أفعاله وحسن خصاله، فقد نظم التجارة وتعاقد على العصم (الإيلاف) مع مختلف الحكام والزعماء لضمان الأمن للقوافل المكية المغادرة شمالاً وجنوبًا
وعندما أَلمَّت بمكة المكرمة مجاعة شديدة على زمانه رحل هاشم - وكان اسمه الأصلي عمرو   - إلى الشام، واستجلب من هناك كميات ضخمة من دقيق الحبوب  ،  فصنع منها كميات من الخبز ونحر معها عددًا كبيرًا من الإبل، ثم هشم الخبز مع اللحم (ويروى أن ذلك هو سبب تسميته هاشمًا) ليصير ثريدًا، وأطعم به قومه حتى شبعوا وفاض الطعام على كل سكان مكة المكرمة. ولم يطل العمر كثيرًا بهاشم، إذ يروى أنه توفي في غزة ببلاد الشام  ،  بينما كان هناك في بعض تجارته، ولم يكن وقتئذ قد بلغ سن الأربعين  .  خلف هاشمًا في السقاية والرفادة أخوه المطلب بن عبدمناف، الملقب بالفيض لكرمه، ثم من بعده بن أخيه شيبة الحمد بن هاشم الملقب بعبدالمطلب (جد النبي صلى الله عليه وسلم)، الذي ولد نحو عام 497م من أم خزرجية تدعى سلمى بنت عمرو بن زيد  ،  في يثرب بين أخواله حين ترك أبوه هاشم أمه سلمى لتلد في أهلها وهو في طريقه للسفر إلى الشام. وتوفي عبدالمطلب عام 597م  ،  ونظرًا لحكمته وسماحته فقد كان الشيخ المطاع في جُلّ شؤون مكة المكرمة، إلى جانب ولايته السقاية والرفادة عن أبيه وعمه. وقيل في خُلُقه إنه كان يكره الخمر وينهى عن القتل والزنا ويحرص على الوفاء بالعهد، وإنه كان يكثر الطواف بالبيت ويحرِّم البغي بمكة المكرمة
ولعل مما زاد في شرف عبدالمطلب بن هاشم ومكانته قيامه بحفر بئر زمزم، وإعادة الكشف عن مكانها، بعد أن كانت مجهولة على وجه التحديد، منذ أن ردمها الجراهمة عندما أيقنوا بانتصار خزاعة وحلفائهم من كنانة عليهم، وأنهم لا شك سوف يجبرون على الرحيل عن حرم البيت، فردموا البئر المباركة، قوام الحياة من حول الكعبة المشرفة، بعد أن خبؤوا فيها كنوزهم الذهبية وأثمن ذخائرهم وبينها غزالان من الذهب الخالص، وسيوف ذات أغماد من الذهب، وأموال كثيرة. وقيل كذلك إنهم انتزعوا الحجر الأسود من مكانه - آنذاك - ووضعوه مع كنوزهم في بئر زمزم  ؛  وذلك مخافة أن تقع هذه النفائس في يد خزاعة حين خروجهم منها، وعلى أمل تمكنهم من العودة يومًا ما واستعادة سيادتهم القديمة على مكة المكرمة، ومن ثم يتسنى لهم حفر زمزم مرة أخرى واستعادة كنـزهم الثمين. ولكن ذلك لم يتحقق وظل تحديد موضع زمزم سرًا تضمه أرض الحرم في جنباتها الطاهرة، حتى رأى عبدالمطلب بن هاشم في المنام موضعها، فأمر بحفرها، حسب الرواية المشهورة عن بن إسحاق في ذلك  .  وثمة رواية أخرى في هذا الصدد تبدو أكثر واقعية  ،  مفادها أن عبدالمطلب قد استقصى أمر البئر ومكانها من الرواة والمسنين من أهل مكة المكرمة وتحرّى موقعها، ثم شرع في حفرها 
ولما أرادت باقي قريش مقاسمته فيها، وحدث في ذلك شقاق كبير، ولم يكن لعبدالمطلب من الولد - آنذاك - إلاّ بكره الحارث، وأحس بعدم مقدرته على مجابهتهم، نذر إن رزقه الله بعشرة من الولد ليذبحن أحدهم تقربًا له، فيما يروى من القصة المشهورة عن فداء عبدالله والد المصطفى - وهو من خرجت عليه القداح في كل مرة   - بمئة من الإبل نحرها عبدالمطلب ونال منها كل من بمكة المكرمة حتى سباع الجبال وطيور السماء. ولما تم حفر البئر المباركة استخرج عبدالمطلب كنوز الجراهمة فلم يستأثر بها لنفسه، وإنما صهر معدن السيوف وصنع منه بابًا للكعبة غطاه بصفائح ذهبية   من مصهور أحد الغزالين الذهبيين، بينما أودع الغزال الثاني في جوف الكعبة المشرفة
وبفضل ذلك تعززت منـزلة عبدالمطلب شيخ بني هاشم من بعد حفر البئر المباركة، واستقرار إمدادات الماء الطيب الزلال الذي لم يُمنَع منه أحد من سكان الحرم أو زائريه، حتى لقد أغنتهم زمزم  عن جلب الماء إلى الحرم من الآبار الأخرى   في خارج الوادي، وبذلك بلغت مكانة عبدالمطلب بن هاشم شأنًا لم يدانِه فيه أحد
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى حادثتين مهمتين وقعتا في عهده، أولاًهما هي الحادثة المشهورة الخاصة بذهابه لمقابلة أبرهة الحبشي خارج مكة المكرمة  ،  ومطالبته إياه بإبله المئتين التي سلبها جنده، فلما تعجب أبرهة من أن شيخ مكة المكرمة يحادثه في أمر هين كهذا ويترك الحديث في رده عما اعتزمه من هدم البيت الحرام بأفياله، يجهر الشيخ الجليل في وجه أبرهة بأنه هو رب الإبل وأن للبيت ربًا سيمنعه عنه. أما الحادثة الثانية فهي قيامه على رأس وفد من وجوه مكة المكرمة بزيارة اليمن لتهنئة الملك سيف بن ذي يزن   باسترداد الملك من الأحباش بعد هلاك أبرهة الأشرم، والفترة القصيرة التي حكمها ولداه اللذان خلفاه على العرش  ،  وذلك على الرغم مما تشير إليه بعض الروايات أن السفارة كانت من امتياز بني عدي وحدهم حسب الأعراف المكية
لقد أوصى الشيخ الجليل عبدالمطلب في آخر عمره بالسدانة والسقاية والرفادة إلى ابنه الزبير الذي تنازل عنها فيما بعد مختارًا إلى أخيه عبدمناف المكنى أبا طالب الذي تنازل بدوره عن السقاية والرفادة دون سدانة البيت لأخيه العباس، وذلك وفاء لديون كثيرة كانت مستحقة عليه، استقضاها من أخيه، كي يقوم بحق الرفادة على وجهها الأكمل. وظلت السقاية للعباس بن عبدالمطلب حتى أول الإسلام، بينما ظل تداول اللواء (حق إعلان الحرب)، وتوارث الحجابة (حفظ مفتاح الكعبة المشرفة وفتح بابها) في بني عبدالدار حتى فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة في النصف الثاني من شهر رمضان من العام الثامن الهجري، وكانت آنذاك بيد عثمان بن طلحة
 
شارك المقالة:
50 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook