الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين الصابرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه من الأنصار والمهاجرين، أما بعد:
وهذه آية عظيمة يحثُّ الله تعالى فيها على التقوى والإحسان، ويشير إلى أنَّ تارك الإحسان غيرُ معذور بتركه الإحسانَ، ولو كان سببه تضييق الناس عليه، أو إجبارهم له على تركه؛ فإنَّ الله خلق الأرض واسعةً لعباده؛ فمن ضُيِّق عليه في أرض، هاجَرَ إلى غيرها صابرًا محتسبًا مُقتديًا بالمُرسَلين والصالحين من قبلِه، الذين هاجروا وتركوا ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله عز وجل، وأجرُ الصابر عند الله تعالى أجرٌ عظيم لا عدَّ له ولا حد، وقد فصَّل الله سبحانه كلامه هذا في قوله: ? إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ? [النساء: 97 - 100].
وقال سبحانه: ? يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ? [العنكبوت: 56]، فحيثما قدر العبد على إقامة التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كان هذا المكان هو الذي ينبغي أن يصير إليه ويقصده؛ لأنَّ مقصد الحياة الدنيا هو السير إلى الله عز وجل، وهي دار العبور إلى دار القرار، فمَن فضَّل القرار حيث لا يُقيم دينَه ولا يُحسن فيه، فقد فرَّط وقصَّر وابتعد عن مراد الله تعالى منه، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإن الله تعالى الذي أمره بالهجرة لعبادته لن يضيعه ولن يَخذله، وله في التاريخ شاهدٌ من نصرة الله تعالى لأنبيائه وأتباعهم من بعد ما هاجروا وظُلموا، فمَن امتثل أمر الله تعالى حيث يرى فيه ضيقًا عليه وسَّع الله له في العاقبة؛ فللذين أحسَنوا في هذه الدنيا حسنة.
قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره (التحرير والتنوير) في آية الزمر: وموقع جُملة ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر: 10] موقع التذييل لجملة ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ? وما عُطف عليها؛ لأنَّ مفارقة الوطن والتغرُّب والسفر مشاقُّ لا يستطيعها إلا صابر، فذيل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين؛ ليكون إعلامًا للمُخاطَبين بأن أجرَهم على ذلك عظيم؛ لأنَّهم حينئذٍ من الصابِرين الذين أجرهم بغير حساب، والصبر: سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بألا تضجرَ ولا تَضطرب لذلك، والله تعالى أعلم.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.