وأقبل شهر الله المحرم...!

الكاتب: المدير -
وأقبل شهر الله المحرم...!
"وأقبل شهر الله المحرم...!

 

أقبَلَ شَهر الله المحرَّمُ، وهو شهر عظيم مبارك، جعله الله سبحانه في أول العام؛ ليفتتح المسلم عامَه الجديد بالخيرات والبركات، كما اختتمه بشهر ذي الحجَّة.

 

وقد وفَّق الله سبحانه بإحصاء عشرة أمور حوله، كتبتُها لأذكِّر بها نفسي، ومن أراد الانتفاع بها من إخواني، وأسأله تعالى أن يلهمنا العمل، ويقيَنا الزلل، وهي:

1 - فضل شهر الله المحرم:

• هو أول شهور السَّنة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: ? إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ? [التوبة: 36].

وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((السَّنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم: ثلاثة متواليات؛ ذو القَعدة، وذو الحِجة، والمحرَّم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان))؛ رواه البخاري (2958).

 

• وأفضل أيام الشهر: العشر الأول منه؛ فقد قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظِّمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من محرَّم.

 

2 - وهو شهر نجَّى الله سبحانه نبيَّه موسى من فرعون؛ فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم النَّبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يوم صالح؛ هذا يوم نجَّى اللهُ بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى.

قال: ((فأنا أحقُّ بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه؛ رواه البخاري (1865).

وفي رواية له: ((ونحن نصومه تعظيمًا له))، ورواه أحمد بزيادة: وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح شكرًا.

 

3 - هو شهر محرَّم، وسمِّي بذلك تأكيدًا لتحريمه.

وقد جاء عن الحسن البصري أنه قال: إنَّ الله افتتح السنة بشهرٍ حرام، وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السَّنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرَّم، وكان يسمَّى شهر الله الأصم من شدة تحريمه.

 

4 - والحكمة من تفضيله: أنَّ الله يَصطفي ما يشاء من الأشهر ليجود فيها على عباده إذا تعرَّضوا لفضله بالطاعات وأنواع الخيرات.

وهو أوَّل العام؛ ولهذا يتعيَّن افتتاح العام بتوبة نَصوح تَمحو ما سلَف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.

وصدق من قال:

قطعتَ شهورَ العام لهوًا وغفلة
ولم تَحترِمْ فيما أتيتَ المحرَّمَا
فلا رجبًا وافيتَ فيه بحقِّه
ولا صمتَ شهر الصَّوم صومًا متمَّمَا
ولا في ليالي عَشر ذي الحجَّة الذي
مضى كنتَ قوَّامًا ولا كنتَ مُحرِمَا
فهل لك أن تمحو الذنوبَ بعَبرةٍ
وتَبكي عليها حَسرةً وتندُّمَا
وتستقبل العامَ الجديد بتوبةٍ
لعلَّك أن تمحو بها ما تَقدَّمَا

 

5 - ينبغي تعظيم حرمة هذا الشهر؛ بفِعل الطاعات، واجتناب المعاصي؛ لأنَّ الذنب فيه أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.

قال قتادة في قوله: ? فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ? [التوبة: 36]: إنَّ الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها.

وإن كان الظُّلم على كلِّ حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما يشاء، وقال: إنَّ الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذِكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر؛ فعظِّموا ما عظَّم الله؛ فإنما تُعظَّم الأمور بما عظَّمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.

انظر: تفسير آية (36) من سورة التوبة؛ تفسير ابن كثير.

 

6 - المحافظة على الدعاء عند دخوله، وقد اجتمع في أوَّله: دخول الشهر، ودخول عام جديد، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلَّمون الدعاء كما يتعلَّمون القرآن إذا دخل الشهر أو السنة:

اللهمَّ أدخِلْه علينا بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، وجوار من الشيطان، ورضوان من الرحمن.

ذكره ابن حجر في الإصابة (2/ 378) وقال: وهذا موقوف على شرط الصحيح.

 

7 - المحافظة على صيام شهر محرَّم قدر المستطاع؛ فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصِّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم))؛ رواه مسلم (1982).

وإضافة الشَّهر إلى الله في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم شهر الله إضافةُ تعظيم.

وهل يسنُّ صيام كل الشهر، أم بعضه؟

قال القاري: الظاهر أنَّ المراد جميع شهر المحرَّم.

ولكن قد ثبت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرًا كاملًا قطُّ غير رمضان، فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصِّيام في شهر محرم، لا صومه كله.

وصدق من قال:

شهر الحرامِ مباركٌ ميمون
والصَّوم فيه مُضاعَفٌ مسنونُ
وثوابُ صائمِه لوجه إلهِهِ
في الخُلد عند مَليكه مَخزونُ

قال بعضهم: إنَّما هو غداء وعشاء؛ فإن أخَّرتَ غداءك إلى عشائك، أمسيتَ وقد كُتبتَ في ديوان الصائمين.

 

8 - استحباب صيام يوم عاشوراء:

وهو اليوم العاشر من محرَّم، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عاشوراء، إنِّي أحتسِب على الله أن يكفِّر السَّنةَ التي قبله))؛ رواه مسلم (1976).

وهذا من عَظيم فَضل الله سبحانه على المسلم أنَّ ذنوب سَنة تُكفَّر بصيام يوم واحد.

ولكن ماذا يكفَّر؟

قال الإمام النووي رحمه الله: يكفر كل الذنوب الصَّغائر، وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلَّا الكبائر، ثم قال:

فإن وجد ما يكفِّره من الصغائر كفَّره، وإن لم يصادف صغيرةً ولا كبيرة كُتبت به حسنات، ورُفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر، رجونا أن تخفف من الكبائر؛ ينظر المجموع للنووي.

 

9 - استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء:

وهو اليوم التاسع من محرَّم؛ فقد جاء عن عبدالله بن عبَّاس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمَر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنَّه يوم تعظِّمه اليهود والنَّصارى؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صُمنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رواه مسلم (1916).

 

10 - ‏بداية العام من شهر الله المحرم كان معروفًا عند العرب في الجاهلية.

والذي فعله الصَّحابة هو بداية تاريخ الإسلام؛ وجعلوا ذلك من العام الذي وقعت فيه الهجرة.

‏وظنِّي أنَّ ذلك لا يكون إلَّا بأثر من الأنبياء.

فالذي خلَق الزمنَ وجعل الشهور اثني عشر شهرًا، هو الذي يحدِّد أوَّلَها وآخرها.

فكان أولَها: محرمٌ، وآخرها شهر ذي الحجة.

 

وقد استنبط الإمام السُّهيلي (ت: 581) التاريخ الهجري من القرآن، قال رحمه الله: وفي قوله سبحانه: ? مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ? [التوبة: 108]، وقد عُلِمَ أنه ليس أول الأيام كلها، ولا أَضافَه إلى شيء في اللفظ الظاهر، فتعيَّن أنَّه أضيف إلى شيء مضمر.

 

فيه من الفقه: صحَّة ما اتَّفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة؛ لأنَّه الوقت الذي عزَّ فيه الإسلام، والذي أُمِرَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأسَّسَ المساجد، وعبدَ اللهَ آمنًا كما يحب، فوافق رأيُهُم هذا ظاهرَ التنزيل.

 

وفَهِمْنا الآن بفعلهم أنَّ قولَه سبحانه: ? مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ? [التوبة: 108] أنَّ ذلك اليوم هو أولُ أيام التاريخ الذي يؤَرَّخ به الآن؛ فإن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا هذا من الآية، فهو الظن بأفهامهم؛ فهم أعلم الناس بكتاب الله وتأويله، وأفهمهم بما في القرآن من إشارات وإفصاح.

 

وإن كان ذلك منهم عن رأيٍ واجتهاد؛ فقد علم منهم قبل أن يكونوا، وأشار إلى صحَّته قبل أن يفعل؛ إذ لا يُعقَل قول القائل: (فعلته أولَ يوم) إلَّا بإضافةٍ إلى عامٍ معلوم، أو شهر معلوم، أو تاريخ مَعلوم، وليس هاهنا إضافة في المعنى إلَّا إلى هذا التاريخ المعلوم؛ لعدم القرائن الدالَّة على غيره من قرينةِ لفظ، أو قرينة حال، فتدبَّره ففيه مُعتَبَر لمن اذَّكَّر، وعلمٌ لمن رأى بعين فؤاده واستبصر، والحمد لله.

الروض الأُنُف (4/ 55).

 

مع ملاحظة أنَّه لا ‏ارتباط بين ابتداء السَّنة الهجرية وبين ذِكرى الهجرة النبوية؛ لأن الهجرة كانت في شهر ربيع الأول، وبداية السنة بمحرَّم.

لكن اتَّفق رأي الصَّحابة أن يكون التاريخ من العام الذي وقعَتْ فيه الهجرة؛ لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام.

 

وشهر الله ‏المحرم اكتسب هذه الصِّفة من يوم تحريم العرب له عندما جعلوه رأسًا لسنتهم بدلًا من رجب الذي كانوا يبدؤون السنةَ به.

 

كما ذكر ذلك الأستاذ صلاح عبدالستار الشهاوي في مقال: التقويم الهجري، المنشور في مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، ذو الحجة 1431 ديسمبر 2010م، العدد: 12، السنة: 34.


"
شارك المقالة:
40 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook