واجب العلماء وتأثير صلاحهم على الأمة

الكاتب: المدير -
واجب العلماء وتأثير صلاحهم على الأمة
"واجب العلماء وتأثير صلاحهم على الأمة

 

العالِم الرباني منارة وقدوة للمجتمع ورمز لرُقيِّه، ويفقه ما يصلحهم؛ فقد أورد الطبري في تفسيره: ? وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ? [آل عمران: 79]، والرباني: الجامع إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم؛ [تفسير الطبري، جامع البيان، ج5، ص531].

 

نشر العلم:

قال تعالى: ? وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ? [آل عمران: 187]؛ يقول ابن تيمية: فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم؛ تارة بخلًا به، وتارة اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا في أن يحتج عليهم بما أظهروه منه.

 

وهذا قد يُبتلَى به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلًا به، وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضًا عنه برئاسة أو مال، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى – انتمى - إلى طائفة قد خُولفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل؛ [اقتضاء الصراط المستقيم، ج1، ص84].

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا))؛ [رواه البخاري].




ويقول ابن حجر في شرحه: مراده الحث على نشر العلم في أهله؛ لئلا يموت العالم قبل ذلك، فيؤدي إلى رفع العلم، أو مراده أن يشهر العالم نفسه، ويتصدى للأخذ عنه؛ لئلا يضيع علمه، وقيل: مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضًا للدنيا، وهذا معنًى حسن؛ [فتح الباري شرح صحيح البخاري، باب رفع العلم،ج1، ص178].




وعن أبي الدرداء قال:((ما لي أرى علماءكم يذهبون وجُهَّالكم لا يتعلمون؟ تعلموا قبل أن يُرفع العلم، فإنَّ رفع العلم ذهاب العلماء))؛ [جامع بيان العلم وفضله، ابن عبدالبر، ج1، ص 608].

 

والعلماء هم الذين يوضحون معاني الكتاب والسنة، ويجمعون بين النصوص، ويؤولونها على تأويلها، بخلاف من يضربون النصوص بعضها ببعض، ويؤولونها على غير تأويلها، فيَضلون ويُضلون.

 

الحذر من التكسب بالعلم:

رأس مال العالم عزته واستعلاؤه بدينه على دنياه.

? قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذلَّ، وغني قوم افتقر، وعالمًا تلعب به الدنيا.




? وقال الحسن: عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة؛ وأنشدوا:

عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
ومن يشتري دنياه بالدين أعجبُ
وأعجب من هذين من باع دينه
بدنيا سواه فهو من هذين أعجبُ

[إحياء علوم الدين، ج1، ص 59، باب في آفات العلم].

 

العلماء في الميزان:

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لَيستغفر للعالم من في السماوات، ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر))؛[صحيح ابن ماجه، الرقم197]




? وعن خالد بن صفوان، قال: لقيت مسلمة بن عبدالملك، فقال: يا خالد، أخبرني عن حَسن أهل البصرة؟ (الحسن البصري) قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم مَن قِبلي به، أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبهه قولًا بفعل، إن قعد على أمر، قام به، وإن قام على أمر، قعد عليه، وإن أمر بأمر، كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء، كان أتْرَك الناس له، رأيته مستغنيًا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟ [سير أعلام النبلاء، ج4، ص 576].




فحينما يستغني الناس عن علم العالم، ويحتاج هو إلى دنياهم، عندئذٍ تسقط مكانته وهيبته.

 

? فالعالم همته همة الملوك، يرى المذلة كفرًا؛ كما هتف بذلك الإمام الشافعي.

أنا إن عشت لست أعدم قوتًا
وإذا مُت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي
نفس حرٍّ ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري
فلماذا أزور زيدًا وعمرا

 

? عن الحسن قال: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار؛ [جامع بيان العلم وفضله، ابن عبدالبر، ج1، ص 595].




ثلمة لا تسد: خسارة لا تعوض، أو فراغ لا يُملأ؛ [معجم المعاني الجامع].

 

وكان الحسن البصري يقول لبعض القراء ممن كانوا يخالطون الأمراء: والله لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيكم؛ [سير أعلام النبلاء (4/ 586)].

 

تقديم النصح للأمراء:

النصح للأمراء له فقه؛ لذا على العالم أن يفقه المصالح الحاصلة والمفاسد الناتجة عن أمره ونهيه؛ فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدته أكثر من مصلحته لم يكن مأمورًا به، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد بميزان الشريعة؛ [ابن تيمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].

 

علماء ينصحون أمراءهم:

? الحسن البصري أبو سعيد (وُلد قبل وفاة عمر بسنتين 21هـ - ت: 110 هـ).

لما وليَ عمر بن هبيرة الفزاري العراقَ، وأُضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبدالملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين، والشعبي، وذلك في سنة 103هـ، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولَّاني ما ترَون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون، فقال ابن سيرين والشعبي قولًا فيه تقية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خَفِ الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكًا، فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك؛ يا ابن هبيرة، إن تعصِ الله، فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن،فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا له، فسفسف لنا؛ [السفاف: الرديء من العطية،وفيات الأعيان، ابن خلكان، ج 2، ص72].




وروي أنه كتب عمر بن عبدالعزيز إلى الحسن البصري يقول له: إني قد ابتُليت بهذا الأمر، فانظر لي أعوانًا يعينونني عليه، فكتب إليه الحسن كتابًا يقول في أثنائه: أما أبناء الدنيا، فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة، فلا يريدونك، فاستعن بالله والسلام؛ [مرآة الجنان، اليافعي، ج1، ص182].

 

الموازنة بين المصالح والمفاسد:

? فالشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم؛ فعلى العالمأن يكون عالمًا برتب المفاسد والمصالح، وبالترجيح إذا تعارضت المصالح والمفاسد؛ وهناك قواعد فقهية يرجع إليها الفقيه في فتواه، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف؛ [الفروق، ج1، ص3، للقرافي].




منها إذا تعارض مفسدتان، رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.

 

كما حدثفي صلح الحديبية، فإن ما فيه من ضيم على المسلمين، استشكله عمر رضي الله عنه، أخف ضررًا ومفسدة من قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا متخفين بدينهم في مكة، ولا يعرفهم أكثر الصحابة، وفي قتلهم معرة عظيمة على المؤمنين، فاقتضت المصلحة احتمال أخف الضررين لدفع أشدهما؛ وهو ما أشار إليه قوله عز وجل: ? وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? [الفتح: 25].

 

التطبيقات:

جواز السكوت عن إنكار المنكر، إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم؛ [القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، ج1، ص227، د/ محمد الزحيلي].




ونظيرها قاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة، قُدم دفع المفسدة غالبًا، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، وقد يراعى المصلحة، لغلبتها على المفسدة؛ [الأشباه والنظائر، ص87، السيوطي].




? ونختم بوصف السيوطي للفقهاء: أهل الفقه قِوام الدين وقُوَّامه، وبهم ائتلافُه وانتظامُه، هم ورثة الأنبياء، وبهم يستضاء في الدهماء،.. ويهتدى كنجوم السماء؛ [الأشباه والنظائر، ص3، السيوطي].




فالعلماء لهم دور كبير في إحياء الأمة، فالله رفع قدرهم، وأجرى بالأحكام أقلامهم، واختصهم بالعلم والفهم، وواجبهم أن يكونوا قدوة في ميدان العمل، وإيجاد جيل عمل وبناء في شتى ميادين الحياة؛ لتنهض الأمة من كبوتها؛ ? وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ? [الروم: 4، 5].


"
شارك المقالة:
25 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook