واقع المدعو في العصر الحاضر

الكاتب: المدير -
واقع المدعو في العصر الحاضر
"واقع المدعو في العصر الحاضر

 

توطئة:

بعد هذه الجولة السريعة والممتعة مع عالمنا الكبير، ومصلحنا القدير، وداعيتنا العظيم الإمام ابن كثير، وبعد تعرُّفِنا على منهجه الإصلاحي والدعوي، فيحسُن بنا أن نقف لنرصد ونستخلص أهم الجوانب التي يمكن أن نستفيدها من هذا المنهج، سواء فيما يتعلق بالمدعو المعاصر، أو ما يتعلق بالداعية المعاصر، وما يمكن أن يستفيده كلٌّ منهم من هذا المنهج الدعوي، سواء كان في موضوع الدعوة، أو في فقه المدعو، أو في كيفية الدعوة ومؤهلات الداعية، مع إلقاء نظرة سريعة على الواقع المعاصر لكل من المدعو والداعية، وهو ما سنتناوله في هذا الباب إن شاء الله.

 

واقع المدعو في العصر الحاضر:

إن الحديث عن واقع المدعوِّ في العصر الحاضر يجرُّنا إلى الحديث عن الواقع المعاصر بشكل عام، وواقع المسلمين بشكل خاص، وحيث إنه متشعب وطويل ويحتاج إلى تفصيل لا يسعه هذا المبحث المختصر؛ لذا سأقصر الحديث على رصد لأهم الملامح العامة لواقع المدعو في العصر الحاضر على شكل نقاط موجزة:

1) لا يختلف المدعوُّ في العصر الحاضر عن المدعوِّ في السابق من حيث طبيعته وجنسه، ولكنه يختلف عنه من حيث البيئة التي يعيش فيها، وظروف الحياة ووسائل المعيشة، فالمدعوُّ في العصر الحاضر هو ذلك الإنسان الذي يعيش في زمن طغت فيه المادة على حياة البشر، فأصبحت الأمم والشعوب والدول تقاس بما لديها وما يمكن أن تنتجه من هذه الماديات، فأصبحت تتبارى في سباق محموم في الاختراعات والصناعات؛ حتى تنال السيادة والصدارة بما تصل إليه من تفوق مادي[1].

 

2) المدعوُّ يعيش اليوم في زمن يعاني فيه المسلمون أزمة، هي أقسى من أي أزمة مرَّت عليهم في ما مضى من تاريخهم؛ فمثلًا أزمة الحروب الصليبية وحروب التتار وسقوط الأندلس وبغداد ونحو ذلك، كانت بسبب الانشغال عن الالتزام بمنهج الإسلام الصحيح بالبدع والخرافات والمعاصي، ولكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع شكٍّ ولا نقاش، لا بوصفه عقيدة وشريعة، ولا بوصفه نظامًا للحكم والحياة، فالمسلمون حينما هُزِمُوا أمام الصليبين وأمام التتار لم يكن صدى الهزيمة في نفوسهم هو الشكَّ في الإسلام ذاته عقيدة أو نظام حياة، ولم يكن التطلُّع إلى ما عند أعدائهم من عقائدَ أو أفكار أو مشاعر أو نظم أو أنماط سلوك، أو الظن - للحظة واحدة - أن أعداءهم يملِكون شيئًا من الحق تقوم حياتهم عليه، أو أن هناك شيئًا - غير الإسلام - يمكن أن يكون هو الحق في العقيدة وفي نظام الحياة سواء، ولم تكن قضية الحكم بما أنزل الله موضع شك منهم ولا موضع نقاش؛ لأنها كانت جزءًا لا يتجزأ من إسلامهم؛ لذلك لم يَهِنُوا - حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم فترة غير قصيرة - ولم يشعروا أنهم أدنى من أعدائهم، بل كانوا يشعرون - حتى وهم مهزومون - بازدراء شديد لأعدائهم؛ لأن عقيدتهم وتصوراتهم لا تتفق مع العقيدة الصحيحة والتصور الصحيح، ولأن أخلاقهم وأنماط سلوكهم لا تتفق مع أخلاقيات الإسلام وأنماط سلوكه.

 

3) أما اليوم فمن أبرز مظاهر أزمة المسلمين الافتتان بالحضارة الغربية في تصوراتها الاعتقادية، وأحكامها التشريعية، وقيمها الخلقية، ومظاهرها الذوقية؛ حيث لم ينتج عن ذلك مواقفُ سياسية موالية للغرب فقط؛ وإنما نتج عنه محاولة لإعادة صياغة المجتمعات الإسلامية كلِّها في قوالب غربية في تركيبها الاجتماعي، ونظمها القانونية، وأوضاعها الاقتصادية، وبرامجها التعليمية، ووسائلها الإعلامية، على اعتقاد بأن هذه الصياغة شرطٌ ضروري لنهضة الأمم الإسلامية، وتحويلها من مرحلة التخلف والرجعية، إلى مرحلة التقدم والمعاصرة[2].

 

4) يقول الدكتور زكي نجيب محمود: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترًا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علمًا وحضارة، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل إني تمنيت عندئذٍ أن نأكل كما يأكلون، ونَجِدَّ كما يجدُّون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، على ظنٍّ مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها - وأصحابُها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع - وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانبًا ونترك جانبًا، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى الاعتدال[3].

5) وعلى ضوء ذلك فالمدعوُّ يعيش في مجتمع إسلامي تَنكَّرَ كثير من أبنائه للالتزام بدينهم، وتطبيقه في الحكم والتشريع، والقضاء والاقتصاد ونحو ذلك، فأصبح تطبيق الإسلام في أحسن أحواله محصورًا في الأحوال الشخصية والشعائر التعبدية، وأصبحت الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والعودة إلى تعاليم الإسلام والسير على نهجه تخلُّفًا ورجعية، والمناداة بذلك تطرفًا وإرهابًا.

6) والمدعو في هذا العصر يعيش في زمن حصلت فيه ثورة تقنية وتقدُّمٌ هائل في وسائل الاتصال والإعلام، فأصبحت الرسالة الدعوية تصل للمدعوِّ حية مباشرة في اللحظة ذاتها، بخلاف المدعوِّ في الزمن الماضي الذي لا تصله الرسالة الدعوية بهذه السرعة والكيفية، فهي لا تصل إلا إلى عدد محدود من الناس، ولكن مع الأسف الشديد نجد أن المتحكم في الوسائل والمسيطر عليها في غالب الأحوال هم أصحاب الكفر والضلال والفجور، الذين ليس لهم همٌّ إلا إفساد عقائد الناس وأديانهم وأخلاقهم، ونشر الباطل والرذيلة بينهم؛ لذلك فالمدعو يتعرض لهذه الدعوات الهدامة والأفكار المضللة في بيته، وفي سوقه ومقرِّ عمله، وتغزوه بأشكال متعددة، ووسائل متنوعة؛ مسموعة ومقروءة ومرئية، في الإذاعة والتلفاز، والفضائيات والإنترنت، والمطبوعات والدعايات، ونحوها، مما يمرض القلب بالشهوات والشبهات[4].

7) تنوع التحديات التي يواجهها المسلمون اليوم مع أعدائهم، فقد أخذت أشكالًا متعددة، وصورًا مختلفة، فلم تعد مقصورة على القتال والمواجهة العسكرية مع أعدائهم، فأصبح هناك تخلُّفٌ علمي وتقني، يتمثل في الجمود ورفض الاجتهاد، وتعطيل الأخذ بالأسباب، وهجرة العقول المسلمة إلى بلاد الغرب، وهناك تخلُّف اقتصادي وصحي، يتمثل في كثرة الديون المتراكمة، والاعتماد على الغرب في الموارد الغذائية، والفقر والمجاعة وسوء الأحوال الصحية، وهناك تحديات ثقافية من إثارة الشُّبَهِ حول الشريعة الإسلامية وصلاحية تطبيقها، وحول القضاء والتشريع الإسلامي، وتشويه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة الشبهات حول اللغة العربية والدعوة إلى العامية، وغير ذلك من ألوان الغزو الفكري، كما أن هناك تحدياتٍ اجتماعية من الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، والخروج بها عن طبيعتها، وإلغاء حجابها، والدعوة إلى اختلاطها بالأجانب، ومساواتها بالرجل في كل جوانب حياتها[5].

8) أن العصر الذي يعيش فيه المدعوُّ اليوم ابتُلي كثير من أهله بفساد النظرة وانحطاط الأخلاق إلى درجة سحيقة، حتى أصبحت لجماعات الشذوذ الجنسي واللواط منظماتٌ وجماعات واتحادات تدافع عنها، ومؤتمرات دولية تتبنى حقوقها، وتحوله إلى أنظمة ودساتير تلزم دول العالم بها[6].

9) ومما ساد في هذا العصر تزيين الباطل للناس، وتلبيسه عليهم، وتسميتُه بغير اسمه؛ فالربا فائدة، والخمور مشروبات روحية.

10) أنه بسبب تقدُّم العلم وتطوُّره في هذا العصر، وبسبب اكتشاف الأدوات الحديثة والمساعدة كالمناظير الفلكية والمجاهر الطبية، تَبيَّنَ لكثير من العلماء شيءٌ من عظمة الله سبحانه في مخلوقاته ما لم يكن معروفًا فيما سبق، مما جعل بعضهم يتساءل عن هذه القدرة الإلهية، ويكون مؤهلًا لَقبول دعوة الحق، وترك ما هو عليه من الباطل، كما أن هناك صنفًا مَلُّوا هذه الحضارة وزيفها، وعرَفوا سخافة ما يَدينُ به كثير من الناس، فأحدَثَ عندهم فراغًا روحيًّا جعلهم يبحثون عن الدين الحق الذي يوافق نظرتهم وما تطمئنُّ إليه نفوسهم[7].

11) وأخيرًا: فسمة هذا العصر هو أنه - كما ذكرنا - عصر طغَتْ فيه المادة على حياة الناس، فإذا كان يخشى على المدعو في السابق الاغترارُ بالدنيا وزينتها، فكيف هو الحال بالمدعو في العصر الحاضر؟ عصر ابتعَدَ فيه كثير من الناس عن دينهم، وتعلَّقوا بزخارف الدنيا وزينتها؛ من مراكبَ فارهة، وقصورٍ فاخرة، فصاروا أكثر تعلُّقًا بدنياهم، مما كان له الأثر البالغ في ضعف الدِّين، والرغبة عن الله والدار الآخرة[8].




[1] انظر منهج علي بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، د. سليمان العيد ص 468، طبعة دار الوطن بالرياض، الأولى 1422هـ.
[2] انظر جعفر شيخ إدريس، الدعوة الإسلامية والغزو الفكري، ص 4، رابطة الشباب المسلم العربي 1987م.
[3] تجديد الفكر العربي ص 13، طبعة دار الشروق، الطبعة السادسة 1980م. وانظر المرجع السابق ص 4.
[4] انظر سليمان بن قاسم العيد: منهج علي بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص 496، مرجع سابق.
[5] انظر عبدالقادر هنادي: قلاع المسلمين مهددة من داخلها وخارجها، فقد قام بدراسة تحليلية موسعة للتحديات التي تواجه المسلمين، طبعة مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1408هـ.
[6] انظر سليمان العيد: منهج علي بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص 470، مرجع سابق.
[7] انظر سليمان العيد: منهج علي بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص 473.
[8] انظر المرجع السابق ص 470.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook