وجادلهم بالتي هي أحسن

الكاتب: المدير -
وجادلهم بالتي هي أحسن
"وجادِلهم بالتي هي أحسن




الجدال يعني: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت فتله، وقيل: الأصل في الجدال الصراع، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة؛ وهي الأرض الصلبة، أما في الشرع فقد استُعمِل في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها .

 

وردت مادة الجدال في القرآن الكريم كثيرًا، لأهميتها، ومن ذلك قوله تعالى: ? وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ? [البقرة: 197]، ? قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ? [هود: 32]، ? وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [النحل: 125].

 

والجدال بالتي هي أحسن أسلوبٌ له قيمته في نجاح الدعوة إلى الله تعالى؛ فليس أسرع إلى القلوب وأحب إلى النفوس من قول يهدي إلى الحق والخير، وذلك بالمسالمة والحسنى، أما السفسطة ومحاولة الغلبة عن طريق الخشونة والطعن، فهذا أسلوب مرفوض يؤدي إلى نتيجة عكسية، ويُنفر المستمع من الكلام حتى لو كان حقًّا؛ ومن أجل ذلك أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يستعمل الرفق واللين وحسن الخطاب في دعوته .

 

والجدال بالتي هي أحسن يمثل الطريقة العملية المثلى للوصول إلى القلوب، فلو لاحظنا الطرق الجدلية المعتمدة على التماس نقاط الضعف عند المخالف، وتوجيه الضربات المتلاحقة مستغلين نقاط الضعف، وإثارة أعصابه بالأساليب العنيفة المنافية لاحترام ذاته وفكره، لوجدنا أنها غير مفيدة؛ لأنها تهاجم كبرياء الإنسان وكرامته في الصميم، وتجعله يعاند ويرفض الاستماع للكلام ولو كان حقًّا؛ ولذلك لا بد أن تُشعر المخاطب أنك وهو رفيقان في رحلة الوصول إلى الحق، ومن هنا فليست هناك طريقة تأخذ بيدي هذا الإنسان الحائر إلى شاطئ النجاة سوى طريقة الجدال بالتي هي أحسن كما بيَّن ذلك القرآن الكريم.

 

وهذا الاستعمال قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، فالجدال المحمود يكون بإظهار الحق والوقوف عليه، والجدال المذموم يراد منه المراوغة والمكابرة والمعاندة.

 

وإنما نصَّ القرآن الكريم على أن يكون الجدال مع خصوم الدعوة بالتي هي أحسن؛ لأن الجدال في أصل استعماله اللغوي يتضمن معنى شدة الخصومة؛ لأن كل طرف يسعى إلى إظهار خطأ ما عند الآخر بكل ما يستطيع، وهذا قد يؤدي إلى شيء من التقبيح بحق وبغير حق؛ بغية الانتصار في الجدل، فإذا أدَّى الأمر إلى شيء من ذلك لم يكن جدالًا حسنًا، كما أنه لا يليق بالدعوة الإسلامية؛ لأنها حق في حد ذاتها ووسائلها ومنهجها، لا تخرج عنه إلى باطل أبدًا، ولأن ما فيها من الحق يُغنيها عن ذلك.

 

آداب الجدال بالتي هي أحسن:

ينبغي للمتناظرين أن يلتزما الآداب الآتية:

1- أن يكون الكلام غير طويل ولا مختصر.

2- أن يتجنبا الألفاظ الغريبة والمجملة.

3- أن يكون كلامهما ملائمًا للموضوع.

4- - ألَّا يقلل أحدهما من شأن صاحبه.

5- أن يقصد كل منهما ظهور الصواب.

6- ألَّا يتعرض أحدهما لكلام صاحبه قبل أن يفهم غرضه منه.

7- أن ينتظر كل منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه.

8- التسليم بالقضايا التي هي من المسلمات والمتفق عليها عند الطرفين، وقبول النتائج التي توصل إليها الأدلة القاطعة والأدلة الراجحة.

 

ورحم الله الإمام الشافعي حينما قال: ما ناظرت أحدًا قطُّ فأحببت أن يُخطئ، وما كلمت أحدًا قطُّ وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه، وما أردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته، وانعقدت محبَّتُه، ولا كابرني أحد على الحق ودفع الحجة، إلَّا سقط من عيني ورفضته، وما كلمتُ أحدًا قطُّ، إلا أحببْتُ أن يوفق ويسدد، ويُعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ.

 

نماذج من المجادلة بالتي هي أحسن:

عرض القرآن الكريم نماذج من الدعوة إلى الله تعالى بالجدال بالتي هي أحسن في صورة رائعة، يستفيد منها دُعاةُ عصرنا في حياتهم، ومن يأتي بعدهم إلى قيام الساعة، وفي مقدمتها مجادلة أبي الأنبياء لأبيه آزر في سورة مريم: ? يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ? [مريم: 42 - 45].

 

لقد استهلَّ إبراهيم عليه السلام كلامه عند كل نصيحة بقوله: يا أبت توسُّلًا إليه واستعطافًا لقلبه، مع استعمال الأدب الجم، وهذا كلام يُحرِّك قلوب السامعين.

 

وتروي لنا كتب السيرة مواقفَ متعددةً لمجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار والنصارى ودعوتهم إلى الإسلام، وكيف أن الكثير منهم كان يعتنق الإسلام بعد هذه المجادلة؛ يحدثنا أبو عبيدة بن حذيفة عن قصة إسلام عدي بن حاتم، فيقول: كنت أسأل عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا آتيه، فأسأله، فأتيته فسألته فقال: بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعث، فكرهته أكثر ما كرهتُ شيئًا قطُّ، فانطلقتُ حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فقلت: لو أتيت هذا الرجل، فإن كان كاذبًا لم يخف عليَّ، وإن كان صادقًا اتَّبَعْتُه، فأقبلت، فلما قدمت المدينة استشرف لي الناس، وقالوا: جاء عدي بن حاتم، جاء عدي بن حاتم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لي: ((يا عدي بن حاتم، أسلِمْ تسلمْ))، قال قلت: إن لي دينًا، قال: ((أنا أعلم بدينك منك - مرتين أو ثلاثًا - ألستَ ترأسُ قومَك؟))، قال قلت: بلى، قال: ((ألستَ تأكل المِرْبَاع (ربع غنائم الحرب)))، قال قلت: بلى، قال: ((فإن ذلك لا يحِلُّ لكَ في دينِكَ))، قال: فتضعضعت لذلك، ثم قال: ((يا عدي بن حاتم، أسلِمْ تسلم، فإني قد أظن - أو قد أرى أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه ما يمنعك أن تسلم خصاصة (حاجة وفقر) تراها من حولي، وتوشك الظعينة (المرأة على البعير في الهودج) أن ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز، وليفيضن المال - أو ليفيض - حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة)) .

 

قال عدي بن حاتم: فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن على كنوز كسرى بن هرمز، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة، إنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي؛ رواه ابن حبان.

 

والذي نلاحظه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن له وجه الخطأ فيما هو عليه؛ ولكن تم في أحسن صورة جدال وأرفقه بالخصم، كما بيَّن له الرسول عليه الصلاة والسلام في جداله أنه أعلم بدينه منه، وأقام الحجة في ذلك في إطار من الرفق والشفقة، وإظهار حب الخير له حتى هداه الله إلى اعتناق الإسلام.

 

وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ترك المراء والجدال في جميع الأحوال، فقال: ((أنا زعيمٌ ببَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ، وإنْ كان مُحِقًّا))؛ رواه أبو داود، وربض الجنة؛ يعني: أسفل الجنة.

 

يقول ابن الجوزي في كتابه الإيضاح: أول ما تجب البداءة به: حسن القصد في إظهار الحق طلبًا لما عند الله تعالى، فإن آنس من نفسه الحيد عن الغرض الصحيح فليكفَّها بجهده، فإن ملكها، وإلا فليترك المناظرة في ذلك المجلس، وليتق السباب والمنافرة؛ فإنهما يضعان القدر، ويكسبان الوزر، وإن زل خصمُه، فليوقفه على زلـله، غير مخجل له بالتشنيع عليه، فإن أصر أمسك، إلا أن يكون ذلك الزلل مما يحاذر استقراره عند السامعين، فينبههم على الصواب فيه بألطف الوجوه جمعًا بين المصلحتين.

 

إذًا الجدال له حالتان:

الأولى: الجدال المحمود؛ وهو الذي يكون لتبيين الحق وإظهاره، ودحض الباطل وإسقاطه، وهو الذي أمرت به الأدلة الشرعية، وفعله العلماء قديمًا وحديثًا.

 

الثانية: الجدال المذموم؛ وهو الذي يقصد به الغلبة والانتصار للنفس، وهو الذي تحمل عليه الأدلة الشرعية الناهية عن الجدال.

 

ويمكن للإنسان أن يعرف أن الشخص يماري أو يجادل من خلال طريقته في الكلام، وموقفه مما يُعرض عليه من الأدلة والحجج.

 

فالذي يجادل من أجل بيان الحق يقبل الأدلة الصحيحة، ويعمل بمقتضاها، إلا إذا كان عنده ما يعارضها مما هو أقوى منها؛ ولذلك فإنك تجد كثيرًا ممن يجادلون بالحق يرجعون عن أقوالهم إذا تبيَّنَ لهم خطؤها، ويأخذون بقول الآخرين؛ لأن هدفهم الوصول إلى الحق؛ لا الانتصار للنفس.

 

أما الذي يماري فتجده يصرُّ على رأيه من غير دليل، ولا يقبل من الأدلة إلا ما يوافق رأيه؛ ولذا فإنه يتكلف في رد الأدلة وتأويلها وصرفها عن دلالاتها ونحو ذلك مما يدل على أنه لا يريد الحق؛ وإنما يقصد الانتصار لنفسه.


"
شارك المقالة:
19 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook