وسائل الإصلاح البيئي المستنبطة من غزوة الفتح

الكاتب: المدير -
وسائل الإصلاح البيئي المستنبطة من غزوة الفتح
"وسائل الإصلاح البيئي المستنبطة من غزوة الفتح

 

إن مصالح الناس الحقيقية هي في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والشريعة الإسلامية تصل إلى مقصودها في حفظ هذه المصالح الضرورية للناس عن طريق إصلاح الفرد إصلاحاً جذرياً من داخل نفسه، على أساس العقيدة الإسلامية، القائمة على الإيمان بالله ومراقبته وخشيته ومحبته تعالى، الدافعة إلى المسارعة إلى طاعته.

 

بالإضافة إلى جانب إصلاح الفرد، فالشريعة الإسلامية تعنى عناية كبرى بصلاح المجتمع وإصلاحه، وطهارته وإزالة الفساد عنه، لأن المجتمع الطاهر النظيف يساعد كثيراً على إتمام عملية إصلاح الفرد، ويعمل كثيرا على منع وقوع الإجرام وما يترتب عليه من فوات مصالح المجتمع والأفراد[1].

 

ومما يدل على أهمية وسيلة الإصلاح البيئي، أثر البيئة الغير مباشر في توجيه الناس فهي تصوغ الإنسان في قالبها وتطبعه بطابعها، فكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه[2]، لأن الإنسان مطبوع منذ أعطاه الله خلقه على أنه مخلوق اجتماعي يحب الاجتماع ويكره العزلة، لأنه يجد في ذلك سكن نفسه ومصالحها وشعورها بالأمن، فإذا وُجد - ضمن سلوكه الطبعي - في بيئة ما، أخذ بصفة تلقائية بتغيير نفسه ليستطيع العيش في بيئته بانسجام وتواؤم، هروبا من مشاعر العزلة النفسية التي يكرهها بطبعه - في حالة عدم انسجامه - ولئلا يكون أيضا مثار استغراب واستنكار من حوله من البشر في هذه البيئة[3].

 

لذلك عمل الإسلام جاهداً على أن تكون البيئة التي ينشأ فيها الفرد تقية نقية، تتحقق فيها الفضائل، ويحترم فيها المعروف، وتقرر فيها الآداب[4]، فشرع الله تعالى الهجرة من بلاد الكفر، وحرم الإقامة بين ظهراني الكفار بلا ضرورة، وذلك محافظة على تميز شخصية المسلم، ومنع ذوبانها وانسجامها في المجتمع الكافر، ولذلك بقيت الهجرة العامة إلى يوم القيامة، حتى وإن انقطعت الهجرة الخاصة من مكة إلى المدينة.

 

وقد عمل الإسلام جاهدا على أن تكون البيئة التي ينشأ فيها الفرد نقية تقية، تتحقق فيها الفضائل ويحترم فيها المعروف، ويستنكر فيها المنكر.

 

ومن وسائل الإصلاح البيئي المستنبطة من غزوة الفتح ما يلي:

1- استغلال فطرة التقليد والمحاكاة الموجودة في الإنسان، بتوجيهها إلى التأسي بأهل الصلاح والخير، وعرض القدوة الطيبة التي يراد محاكاتها أمام المدعوين، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى للمسلمين، لاجتماع كل الصفات الخيرة فيه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ? [5].

 

وقد اعتمدت الدعوة الإسلامية في إعدادها للدعاة الأولين على طريقة الأسوة الحسنة وما تقوم به من ألوان تربوية عظيمة، ثم كان هذا المجتمع المثالي هو النواة، والبيئة الصالحة لصناعة الناس صناعة إسلامية، وتغييرهم بسرعة عن طريق التقليد والمحاكاة[6].

 

2-تطهير البيئة الاجتماعية من المظاهر العقدية والسلوكية المنحرفة الفاسدة، ومن ذلك تحريم بيع الخمر والأصنام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام))[7].

 

وكذلك تحريم نكاح المتعة لانتهاء الضرورة التي ألجأت إليه، فاستمراره حينئذ يعد بابا للمفسدة.

 

والنفوس السليمة إذا لامس الإيمان شغاف قلوبها، ارعوت وامتنعت عن اقتراف الرذائل، حتى لو عاشت فيها سنينا، ويساعدها على ذلك صلاح البيئة التي تعيش فيها، كما حدث لفضالة رضي الله عنه، حين دعته امرأة كان يزورها في الجاهلية، فقال: لا.[8] وامتنع عن تلويث نفسه بعد الإسلام.

 

3- التشجيع على التحلي بفضائل الأخلاق، وذلك بالتأكيد عليها، وإبراز قيمتها، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول مخاطبا السائب بن عبد الله حاثا له على الاستمرار على فعل الخير والإحسان إلى الناس: ((يا سائب، انظر أخلاقك التي كنت تصنعها في الجاهلية، فاجعلها في الإسلام، أقر الضيف وأكرم اليتيم، وأحسن إلى جارك))[9].

 

وفي الحث على الغنى عما في أيدي الناس والاستعفاف عن المسألة، والبعد عن الطمع والشره: يقول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: (( إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى))[10].

 

وفي رواية: (( وابدأ بمن تعول، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله))[11].

 

كما ينهى عن الرذائل الأخلاقية، ويظهر آثارها الضارة على المجتمع، كالتفاخر والتكبر، بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب))[12].

 

وينهى عن العصبية الممقوتة بقوله: ((لا حلف في الإسلام))[13]. وينهى عن الخيانة بامتناعه أن تقع منه وقوله: ((ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين))[14].

 

4- تحرص الشريعة الإسلامية على حمل الناس على طاعة أوامرها واجتناب نواهيها طاعة اختيارية، تنبعث من أعماق النفس، وذلك عن طريق إيقاظ الشعور الديني، وإثارة معاني الإيمان في القلوب، وتذكير الناس باليوم الآخر: ? يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ? [15]، وكذلك ببيان ما في أوامرها ونواهيها من خير ومصلحة للأفراد والمجتمعات[16].

 

5- إذا عمل الداعية على إيجاد القدوة الصالحة والبيئة النظيفة وحث على الأخلاق الفاضلة ونهى عن الرذائل، ورغم ذلك كله بقيت بعض النفوس ضعيفة منحرفة، لم ينفع معها الإصلاح والتقويم وتطلعت إلى الإجرام والاعتداء على الآخرين، فوسيلة الإصلاح لمنع هذا الفساد من الناس، ووقايتهم من أضراره، تتم بالعقوبات والحدود ولذلك شرعها الإسلام، وشرع أيضا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

فإذا ارتكب الجاني الجريمة وعوقب بإقامة الحد أو التعزير عليه، فإن ذلك لمصلحة المجتمع، بقطع العضو الفاسد فيه، وهذه مصلحة للجميع، وأما المجرم ذاته، فإن إصلاحه بإيقاعه العقوبة عليه تظهر في تحسيسه بخطئه وإثمه وعصيانه، بعد أن لم ينفع ويجد معه وسائل الإصلاح الأخرى، وكثيرا ما يؤدي هذا الإحساس والشعور بالخطيئة إلى يقظة الإيمان في نفسه، فيتوب توبة نصوحاً، وينزجر عن العودة إلى سابق ذنبه، كما حدث مع المخزومية التي سرقت، فتابت وحسنت توبتها.

 

وحتى إن لم يثمر ذلك توبة، فإن معاقبته تروع الآخرين وتجعله عبرة للمعتبرين، وتحقق مصلحة الإصلاح البيئي والاجتماعي[17]، فالعقاب مقرر لإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة وصيانتها ضد العدوى الأخلاقية، حين لا يعاقب الشر بمثله، وتوخيا من تشجيع الفساد، إذا بقي المذنب دون عقاب، لأنه لا توجد أي ضمانة- في حال عدم إيقاع العقوبة على المذنب- اقتداء غيره به، حتى لو تاب هو نفسه وحسنت توبته[18].

 

ووسيلة إيقاع العقوبات لا تستخدم منفردة في إصلاح المجتمع، بل مع غيرها من وسائل الإصلاح ككل، فالعقوبات جزء من هذه الوسائل، واستخدامها منفردة غير مجد، لأن الإسلام كيان متساند يعضد بعضه بعضًا، فالدواء لا يعقل أن يؤخذ بعضه فقط ثم يأمل المريض في الشفاء[19].

 

وكذلك فإن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدرجاته الثلاث: (اليد واللسان والقلب)، يعد من أقوى وسائل الإصلاح البيئي للقضاء على تلوث بيئة الأخلاق والقيم، فأمراض الأخلاق تنتشر في الهواء في غفلة عن الناس كما تنتشر أمراض الأجسام، والقيام بالاحتساب إما أن يقضي على المنكر تماما، أو أنه يحصره في أضيق نطاق ممكن، لأن مرتكب المعصية، إذا شعر أنه في بيئة صالحة تنكر عليه، لم يجاهر ويعلن بما يفعل أمام الناس، فيضُّر بذلك الخاصة والعامة، بل أنه غالبًا ما يستتر به، ويغلق الأبواب عليه لذلك، بخلاف ما لو كان المجتمع موافقا له في ذلك والبيئة التي يعيش فيها فاسدة.




[1] بتصرف، مجموعة بحوث فقهية: د. عبد الكريم زيدان، المبحث التاسع العقوبة في الشريعة الإسلامية من ص 384- 385، مؤسسة الرسالة بيروت، مكتبة القدس بغداد، ط: بدون، 1396هـ 1976م.

[2] بتصرف، الدعوة إلى الإسلام: سيد سابق ص 71.

[3] بتصرف، غزو في الصميم ص 154- 155، وقد أضاف الأستاذ: هذا ما لم يكن لدى الفرد مقدما إرادة خاصة مؤيدة بأفكار عقائد راسخة ضد البيئة التي وجد فيها وضد مفاهيمها وأنماط سلوكها.

[4] بتصرف، الدعوة إلى الإسلام: سيد سابق ص 71.

[5] سورة الأحزاب آية 21.

[6] بتصرف، غزو في الصميم ص 155- 156. وانظر دعوة الإسلام سيد سابق ص 69.

[7] سبق تخريجه ص 273.

[8] وقال في ذلك شعرا، سبق تخريجه ص 210.

[9] سبق تخريجه ص 358، وَ: ص 521.

[10] سبق تخريجه ص 306.

[11] رواه الإمام أحمد في المسند 3/ 403 عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.

[12] سبق تخريجه ص 142.

[13] سبق تخريجه ص 143.

[14] سبق تخريجه 131.

[15] سورة آل عمران جزء من آية 30.

[16] بتصرف، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: د. عبد الكريم زيدان ص 401، مكتبة القدس بغداد، مؤسسة الرسالة بيروت، ط:6، 1401هـ 1981م.

[17] بتصرف، مجموعة بحوث فقهية د. عبد الكريم زيدان من ص 386- 387، وانظر المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية من ص 401- 403، وانظر التشريع الجنائي الإسلامي 1 /609-611.

[18] بتصرف، دستور الأخلاق في القرآن ص 33.

[19] بتصرف، العقوبات في الشريعة، أهدافها ومسالكها: د. نعمان عبد الرزاق السامرائي ص 8 مكتبة المعارف الرياض ط:1، 1404هـ 1984م.


"
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook