وفاء لا مثيل له!

الكاتب: المدير -
وفاء لا مثيل له!
"وفاءٌ لا مثيل له!

 

ليس ما نعني في حديثنا هذا يا سادة هو ما نعرف من وفاءِ حيٍّ لحيٍّ، ولا وفاء مُنعَم عليه (بضم الميم وفتح العين) لمُنعِمٍ أنعم عليه (بضم الميم وكسر العين)، ولا وفاء مَن يُرجى وصله ويؤمل نَواله وثناؤه، بل هو وفاء ليس كغيره؛ وفاء بعض الأحياء للأموات، وأقول مكررًا ومذكِّرًا نفسي قبل غيري: وفاء البعض، وليس الكل؛ فليس ما يحرك هذا الوفاء الفريد من حيٍّ في زمن الإمهال إلى ميت تقطعت به السبل - جهد المرء ونشاطه وهمته، بل هذا الوفاء نعمة من الله لمن اختار ووفق وأعان؛ فتوكلوا علي الكريم وحده، واسألوه هذا الوفاء، يجِبْكم ويزِدْكم.

 

وإياكم أحبتي، ثم إياكم أن تتكلوا على أنفسكم، وتذكروا دومًا أن لا حول لكم ولا قوة على شيء أبدًا إلا بمدد وتوفيق من عنده سبحانه.

 

وفاء خالص وصافٍ كقَطْرِ السماء، وفاء لا يُرجى من ورائه مصلحة أو منفعة.

وفاء لا يعلم صدقه، ولا يسمع خَطْوَه وتردد أنفاسه إلا الله.

وفاء لأناسٍ نحبهم ضمَّهم الثرى، فأصبحنا لا نراهم، ولا يرَوننا.

 

آباء وأمهات، إخوان وأخوات، أبناء وبنات، زوجات وأزواج، أعمام وأخوال، أصدقاء وجيران... وأناس آخرين كُثُر، ومن العجب أننا لم نلقَ كثيرًا منهم؛ لأنهم رحلوا عن الدنيا قبل قرون طويلة، ولكن لم تَزَلْ تصلنا بهم وشائج أخوَّة الإيمان، وحبال محبة وإجلال، وتقدير وامتنان؛ لِما بذلوا وضحُّوا، وما خلَّفوا من علم نافع، وذكر هادٍ، وسِيَرٍ عطرة يُقتدَى بها.

 

لقد سبقنا كل هؤلاء الأحبة ممن لقينا وممن لم نلقَ إلى عالم القيامة، وحطوا رحالهم لزمنٍ في أول منازل الآخرة.

 

إنهم غادروا وما غادروا، ورحلوا عنا وما رحلوا، وغابوا وما غابوا؛ إذ تركونا بين لوعة الحنين وجمر الأنين.

 

عجيبٌ حالنا معهم؛ كما قال الشاعر:

ومن عجبٍ أني أَحِنُّ إليهمُ
وأسأل عنهم من لقيتُ وهم معي
وتشتاقهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

 

ماذا بوسع الحي الموفَّق أن يعمل لينفع محبيه في مراقدهم المغيبة؟

والله إن الحي اللاحق - وإن توهم واغتر بإمهاله - لعاجزٌ مثل عجز الميت السابق إلى عالم الآخرة، وكلا الحي والميت لا حول ولا قوة له إلا بالله وعونه ومدده، ورحمته وكرمه وحده.

 

وهنا نذكر بعضًا من نعمه علينا التي لا يوفيها الحصر، ويعجز عنها الحساب والعد:

نعمة عظيمة نكاد ننساها، نعمة لولاها لَمات الحي اللاحق منا؛ كمدًا وحسرة وحزنًا وخوفًا على حبيبه الراحل والسابق لعالم الآخرة.

 

لنقدر هذه النعمة حق قدرها، تخيلوا معي حالًا مختلفًا عما نعرف، تخيلوا حالًا ينتهي فيها عمل الميت ممن نحب بموته؛ بحيث لا ينفعه أحد من الأحياء الأحباء، مهما كان محبًّا ووفيًّا له؛ لأن الله حكم - في هذه الحال المتخيلة - بانقطاع أجله ونهاية عمله؛ فيا لها من حسرة لكل وفيٍّ لا يستطيع لحبيبه الراحل نفعًا ولا عونًا ولا سندًا؛ فلا تزيده الذكرى إلا خوفًا ووجعًا!

 

هل أدركتم الآن جليل نعمة الله ومِنَّتِهِ علينا؛ كما جاء في سنة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)).

 

فسبحان من أكرمنا وأنعم علينا، فلم يسُدَّ علينا أبواب النفع، ويقطع عنا سبل الوفاء النافع لمن مات، وانتقل من أحبابنا إلى عالم الآخرة!

 

بل أكرمنا أيما كرم وفضل؛ إذ أبقى لنا - نحن الأحياء اللاحقين - منافذ بِرٍّ، وجسور صلة وودٍّ، ووفاء وأجر مستمر ومتنامٍ، ننفع بها ومن خلالها من نحب ممن سبقنا، ومات عنا وما ماتت ذكراه حين وفَّقنا الباري إلى نعمة الوفاء لهم، وجعل لها منفذًا مشروعًا وجسرًا موصلًا.

 

اللهم جازِهم بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وغفرانًا.

اللهم نقِّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس.

اللهم اجعل مراقدهم رياضًا من الجنة.

اللهم آنس وحشتهم، وارحم غربتهم، وأنِرْ قبورهم برحمتك وفضلك وجودك وإحسانك يا رب العالمين.

 

غادرونا في عَجَلٍ خِفافًا، ولم يقولوا وداعًا ولا سلامًا، لم يوصِدوا من خلفهم بابًا، ولم يأخذوا معهم متاعًا حتى أسماؤهم تركوها خلفهم، تركوا بقية باقية في نفوسنا وأنفاسنا، وخلَّفوا جروحًا في قلوبنا لا تبرأ، حتى نلقاهم آمنين منعمين.

 

اللهم ارحم من فارقونا، وأنزِلْ عليهم الضياء والنور، والفسحة والسرور، ربِّ اجعل بطون ملاحدهم من خير منازلهم، وفسيح جنانك وأعلاها دارهم وقرارهم، والنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه جوارهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.


"
شارك المقالة:
21 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook