ومضات تربوية وسلوكية (2)

الكاتب: المدير -
ومضات تربوية وسلوكية (2)
"ومضات تربوية وسلوكية (2)

 

تَزْخَرُ بطونُ الكتب بالعديد من الأفكار الذهبيَّة، والعبارات المحوريَّة الجديرة برصدها وتدوينها؛ للوقوف على كنوزِ مُفكِّرينا وكُتَّابنا العِظام، وللانتفاع بالفائدةِ المرجوَّة منها؛ ولذلك حَرَصْتُ خلالَ جولتي بينَ دُفُوفِ الكتبِ أن أَرصُدَ هذه الثَّروات الفكريَّة والتربويَّة والتحليليَّة، وأنقُلَها بنصِّها كما وردت فيها أو باختصار طفيفٍ في بعض الأحيان؛ هذا كي يستفيدَ منها القاصي والدَّاني، سائلًا المولى عزَّ وجل أن يَنْفَع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجرَ والمثوبةَ، إنه نعم المولى ونعْم النَّصيرُ.

 

? وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ? [النازعات: 40]

قال أحمدُ بن أبي الحواري: مَرَرْتُ براهبٍ فوجدته نحيفًا، فقلت له: أنت عليلٌ؟ قال: نعم، قلت: مُذْ كَمْ؟ قال: مُذْ عرفتُ نفسي! قلت: فتداوَ! قال: قد أعياني الدواءُ، وقد عزمتُ على الكَيِّ، قلت: وما الكَيُّ؟ قال: مخالفةُ الهوى.

 

وقال وهبٌ: إذا شَكَكْتَ في أمرَيْنِ، ولم تدرِ خيرَهما، فانظر أبعدَهما من هواك فأْتِه.

 

وحسبُنا في هذا الباب قولُه تعالى: ? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ? [النازعات: 40، 41].

 

قال أهل التفسير: إن أبا جهلٍ طاف بالبيت ذاتَ ليلةٍ ومعه الوليدُ بنُ المغيرةِ، فتحدَّثا في شأن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهلٍ: واللهِ إني لأعلمُ إنه لصادقٌ!

 

فقال له: مَهْ! وما دليلُك على ذلك؟

قال: يا أبا عبدشمس، كنا نسمِّيه في صِباه: الصادقَ الأمينَ، فلما تمَّ عقلُه، وكَمَل رشدُه، نسمِّيه: الكذَّاب الخائن! واللهِ إني لأعلم إنه لصادقٌ!

 

قال: فما يمنعُك أن تُصدِّقَه، وتُؤمنَ به؟

قال: تتحدَّث عني بناتُ قريشٍ أني قد اتَّبعت يتيمَ أبي طالب من أجل كِسْرة، واللاتِ والعزى إن اتبعتُه أبدًا!

 

فكان مُقدِّمةَ مَن عبَدَ هواه وسقط في حَمأَةِ عذاب جهنم؛ فكان فرعونَ هذه الأمة.

 

(ما يحتاجُه البليغ)

قال سعيدُ بنُ جُبير رحمه الله: ما رأيتُ للإنسان لباسًا أشرفَ من العقل؛ إنِ انكسَر صحَّحَه، وإن وقع أقامَه، وإن ذلَّ عزَّه، وإن سقَطَ في هُوَّة جذَبَه واستنقَذَه منها، وإن افتقرَ أغناه، فأوَّلُ شيء يحتاج إليه البليغُ: العلمُ المُمتَزِجُ بالعقل.

 

(كَثُر القائلون وقلَّ الفاعلون)

وعَظَ رجلٌ الخليفةَ المأمون العبَّاسي، فأصغى إليه مُنْصِتًا، فلما فرغ قال: قد سَمِعْتُ موعظتَك، فأسأل الله عز وجل أن ينفعَنا بها وبما علَّمنا، غير أننا أحوجُ إلى المعاونة بالفِعالِ منا إلى المعاونة بالمقال؛ فقد كَثُر القائلون، وقلَّ الفاعلون.

 

(المروءة)

سُئل حكيمٌ: ما المروءةُ فيكم؟ قال: أربعُ خِصال: أن يعتزلَ المرءُ الريبةَ كلَّها؛ فإنه إذا كان مريبًا كان ذليلًا، وأن يُصلِحَ مالَه؛ فإنه مَن أفسَدَ مالَه لم تكن له مروءة، وأن يقومَ لأهلِه بما يحتاجون إليه؛ حتى يستغنوا به عن غيرِه؛ فإنه مَن احتاج أهلُه إلى الناس ذهب جاهُه، وأن ينظرَ ما يوافِقُه من الطعام والشراب فيلزمه.

 

(أهمية المثل الواقعية في التربية)

لا يتمُّ كسرُ القيود إلا برؤية نماذجَ من البشر تُقدِّم للناس أمثلة رائعة، يَرهَبُ الإنسانُ القوةَ، ويحترمُ البطولةَ، وتأخذُ المعاني الرائعة بجِماعِ قلبِه، وتسْري إلى فؤاده؛ فتُوقِظُ مشاعرَه، وتنفتِحُ أمامه معاني الحقِّ، ويسهلُ عليه اتِّباعُه، وأعلى درجات القوة قوةُ الحقِّ والدعوة إليه والصبر في سبيله.

 

ولولا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما كان أصحابُ رسولِ الله القريبون منه، ولولا هؤلاء لَمَا كان مَن بعدهم من الناس، ولولا الفتحُ لَمَا دخل الناسُ في دين الله أفواجًا، وليس شيءٌ من هذا ماديًّا، ولكنَّ القوة المادية تخضع في النهاية لقوة الحق.

 

لقد تمَّ الإصلاحُ الذي تمَّ ببعثة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وغير صفحة التاريخ، لقد تمَّ بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام وأصحاب محمد، وكانوا العنصرَ العمليَّ التنفيذي، وكان العنصرُ الأول الوحيَ الذي كان يتلقَّاه محمدٌ عليه الصلاة والسلام من خالق الأرض والسماءِ، ويُبلِّغه أصحابه.

 

كان الوحيُ داعيًا إلى كسر أغلال الجاهليَّة، وكان الوسيلةُ القويَّةُ إلى ذلك محمدًا وأصحابَه؛ نماذجَ الحقِّ والقوة التي حطَّمتِ الأغلالَ، وأهابت بالناسِ أن يُخرِجوا أنفسَهم من القيود الجائرة.

 

وليس لنا من سبيل إلا هذه السبيل؛ طليعةٌ تتأسَّى خطوات محمدٍ عليه الصلاة والسلام وأصحابه شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ في كل ظاهرة وخفيةٍ، وفي كل دقيقة وجليلةٍ؛ في العبادةِ والتفكيرِ، والحربِ والتدبيرِ، والسياسة والدعوةِ، والجُرْأةِ والحكمة ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [الأنعام: 153].

 

ولا يصلحُ آخر هذه الأمة إلا بما صلَح عليه أوَّلُها؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى.

المسؤولية؛ د. محمد أمين المصري، دار الأرقم - برمنجهام - بريطانيا، 36 - 37.


"
شارك المقالة:
12 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook