يا له من دين لو أن له رجالا! (12)

الكاتب: المدير -
يا له من دين لو أن له رجالا! (1-2)
"يا له من دين لو أن له رجالًا! (1 - 2)

 

• إن ميزان الرجولة في الإسلام ليس المال، وليس المنصب والجاه، وليس الحسب والنَّسب، وليس قوة البنيان؛ إنما الأعمال الصالحة، والخلُق الحسَن، والإيمان القوي، والعزم الفتي.

 

• قال تعالى: ? وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? [المنافقون: 4].

 

• جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: ? فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ? [الكهف: 105]))؛ متفق عليه.

 

• وعن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟))، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطَب أن يُنكح، وإن شفع إن يُشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيك في هذا؟))، قال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطَب ألا يُنكح وإن شفع ألا يُشفع، وإن قال ألا يُسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا))؛ رواه البخاري.

 

• وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ممَّ تضحكون؟))، قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: ((والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد))؛ رواه أحمد.

 

• وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال: ((أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأَسْود على أحمر، ولا لأحمر على أسود - إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، ألا هل بلَّغتُ؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فليُبلِّغ الشَّاهدُ الغائبَ))؛ رواه أحمد.

 

• قال ابن تيمية رحمه الله: ... ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يَمدح فيها أحدًا بِنَسَبِه، ولا يَذم أحدًا بِنَسَبِهِ؛ وإنما يمدحُ بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفرِ والفسوقِ والعصيان.

 

• يقول حسن البنا رحمه الله: إنَّني لا أؤلف كتبًا يكون مصيرها تزيين الرفوف وأحشاء المكتبات؛ وإنما مهمتي أن أؤلف رجالًا، أقذف بالرجل منهم في بلد فيُحْييه، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس، ويَقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالًا، كما أُلِّف هو من قبل.

 

• ومن هنا نفهم أن المشكلة ليست أعدادًا مُكررة من الرجال، ولكن أعداد متنوعة من الرجال يكون منهم الرجل بأمَّة، فكما قيل: رجل ذو همة يحيي أمَّة، ومن المعروف أن المسلمين ما انتصروا يومًا بعَدَد ولا بعدة - وإن كانا مهمَّينِ - ولكن انتصروا برجال قلوبُهم عامرة بذكر الله تعالى، موصولة بربها، لو واجهتهم الجبال لاقتلعوها من جذورها.

 

• ورد أنه في معارك الفتح الإسلامي دخل المغيرة بن شعبة على قائد من قواد الروم، فقال له: من أنتم؟، قال: نحن قَدَرُ الله، ابتلاكم الله بنا، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا!.

أولًا: بعض صفات الرجولة التي ذُكرت في القرآن الكريم: لقد ذكر الله تعالى الرجولة وصفات الرجال في القرآن الكريم في عشرات المواضع.

1- قال تعالى: ? مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ? [الأحزاب: 23]؛ فالرجولة هنا تتمثل في الوفاء بالعهود مع الله، ومع النفس، ومع الخلق أجمعين؛ صالحهم وطالحهم، بارِّهم وفاجرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر برد الأمانة: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))؛ رواه أبو داود.

 

2- قال تعالى: ? فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ? [النور: 36، 37]، فالرجولة هنا تتمثل في كونهم رواد بيوت الله وعمارها، وهم قد جعلوا الآخرة أكبر همهم، فلم يشغلهم عنها شاغل، فصمدوا أمام المُلهيات، واستعلَوا على المغريات.

 

• قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: خص التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة، فإن قيل: فلمَ كرر ذكر البيع والتجارةُ تشمله؟ قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله تعالى: ? وَلَا بَيْعٌ ? [النور: 37]... وقال الكلبي: التجار هم الجُلَّاب المسافرون، والباعة هم المقيمون... وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما بيَّاعًا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعًا، وإن كان بالأرض لم يرفعه، وكان الآخر قَيْنًا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان، فأنزل الله تعالى هذا؛ ثناءً عليهما وعلى كل من اقتدى بهما.

 

3- قال تعالى: ? وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ? [القصص: 20، 21].

 

• وقال تعالى: ? وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ? [يس: 20].

فالرجولة هنا هي تحمُّلُ المسؤولية، والنصح في الله تعالى، والدفاع عن أوليائه مهما كلف الأمر، مثلما فعل مؤمن آل فرعون، ومؤمن آل يس؛ جاء الرجل منهم يسعى من أقصى المدينة، وما جاء يمشي بل جاء يسعى؛ لماذا؟ دفاعًا عن أولياء الله؛ إنها الرجولة الحقة بكل معانيها!

 

4- قال تعالى: ? وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ? [غافر: 28]. فالرجولة هنا هي قوةٌ في القول، وصدعٌ بالحق عند سلطان جائر؛ وذلك بالحجة القوية، والمنطق السليم، والرأي السديد، والثقة في نصر الله تعالى وتأييده لأوليائه.

 

5- قال تعالى: ? قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [المائدة: 23]. فالرجولة هنا تتمثل في الجرأة والإقدام والمبادرة وتثبيت المؤمنين وقت الفتن والمحن والابتلاءات؛ لقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا حمي الوطيس واشتد البأس، يحتمون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه؛ رواه أحمد، ولما أصاب الصحابة يوم حُنين من الأذى والهزيمة ما أصابهم، فرَّ بعضهم من أرض المعركة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفر، فلقد كان على بغلته وأبو سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول بصوت عالٍ: (( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب))؛ رواه البخاري ومسلم.

 

6- قال تعالى: ? فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ? [القصص: 24]، فالرجولة هنا في أسمى معانيها وأسمى أوصافها تتمثل في العفة والشهامة والخلق الجم الرفيع من كليم الله موسى عليه السلام؛ فهو المطارَد الغريب الذي تجرد من كل شيء إلا العفة والرجولة التي حُرم منهما الكثيرون.

 

قال ابن عباس رضي الله عنه: سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل، وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.

 

إننا - وخاصة الدعاة منا - أحوج ما نكون في زمننا هذا إلى هذه العفة، وهذه الشهامة، وهذه المراقبة لله تعالى في كل همساتنا ونبساتنا ونظراتنا وسرنا وعلننا؛ فلو تحلينا بأطنان من الأخلاق، وفقدنا مثقال ذرة من العفة والمراقبة، لذهبت هذه الأطنان هباءً منثورًا، وما جعل الله تعالى لها وزنًا.

 

• والرجولة ليست قاصرة على هذه الآيات ولا على هذه المعاني فقط؛ فهناك العديد من الآيات الأخرى التي تظهر معادن الرجال وخصالهم في كل شؤون الحياة.

 

ثانيًا: متى أكون رجلًا؟

الرجولة ليست بالسن المتقدمة؛ فكم من شيخ طاعن في السن وسلوكُه وتصرفاته في سن الطفولة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره؛ فهو طفل صغير، ولكنه ذو بنيان ولحية وشارب.

 

1- روى البخاري ومسلم وغيرهما أن عبدالرحمن بن عوف قال: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت له: يا بن أخي، ما تصنع به؟، قال: عاهدتُ الله إن رأيتُه أن أقتله أو أموت دونه، وقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مثله، قال عبدالرحمن: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما، فأشرتُ لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء - رضي الله عنهم أجمعين.

 

2- مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مجموعة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟، فقال: يا أمير المؤمنين، لم أقترف ذنبًا فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!.

 

3- ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدمْ من هو أسنُّ منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن، لكان في الأمَّة من هو أولى منك بالخلافة.

 

• هؤلاء هم أطفال المسلمين وأشبال الإسلام؛ منارات ساطعة، وقدوات صالحة، يُقتدى بهم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

 

وللحديث بقية في الجزء الثاني من هذا المقال بفضل الله تعالى، لنتعرف على:

• نساء زاحمن الرجال في صفات الرجولة.

ثم نتعرف على نماذج خلدها التاريخ لتكون زادًا على الطريق ونبراسًا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


"
شارك المقالة:
22 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook