يثرب (المدينة المنورة) في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
يثرب (المدينة المنورة) في المملكة العربية السعودية

يثرب (المدينة المنورة) في المملكة العربية السعودية.

 
لم يكن تاريخ يثرب (المدينة المنورة) القديم في المصادر العربية أحسن حالاً من تواريخ بقية مناطق جزيرة العرب؛ فرواية المصادر العربية عنه تتسم بطابع الخيال والبعد عن الحقيقة، ولا تفضي مخرجاتها إلا إلى رؤية ضبابية ليس في وسع المؤرخ تأكيدها أو نفيها، خصوصًا أن الاكتشافات الآثارية لا تسعف في إعادة قراءة تلك الروايات الأسطورية والتأكد من حقيقتها، وعلى العكس من ذلك فإن روايات المصادر العربية للعصور التاريخية في يثرب قبيل الإسلام تبدو أكثر واقعية وأقرب إلى الحقيقة التاريخية منها إلى الخيال، وليس أمام المؤرخ سوى المحاولة لرسم صورة تاريخية تعتمد على المقاربة بين رواية الإخباريين العرب وما أثبتته رواية الشواهد الآثارية والتاريخية ليثرب في عصورها الموغلة في القدم.
 
اختلفت روايات المصادر العربية في أصل تسمية يثرب بهذا الاسم، فذهبت مذاهب شتى في تعليل دلالته، فبعضهم   يذكر أن أصل التسمية منسوبة إلى يثرب بن قامة بن مهلائيل بن إرم بن عبيل، وفي رواية أخرى ينسب اسم يثرب إلى زعيم العماليق  .  وثمة من يذكر أن الاسم مشتق من (التثريب) في اللغة، أي اللوم بالذنب، وفي التنـزيل العزيز: ﭕﮣﭔﭱﮤ ﮧﯰ ﭯﮣﮉﱉﯟﰟﯔﭭﮬ ﰷﮤﭭﮞﯜﱉﭣﰵﭾﰴ ﭓﭔﭩﱉﯜﮥﮡﱇﮀﮤﭘ ﯔﮤﱄﱉﱐﰠﯞﰴ ﭓﭔﭑﯻ ﭩﮣﭣﰵﭾﱇﭘ ﮢﮥﮔﰹﮡﮥ ﭖﮢﯢﱇﮝﮩﭾﰴ ﭓﭔﭩﯞﯸﰋﮝﰠﭺﰠﱍﱋﯫ ﰙﰜﰣﰘ  .  ويرى آخرون أن الاسم كان في الأصل يطلق على حي صغير في يثرب، ومع مرور الوقت أصبح الاسم الخاص يطلق على العام  ،  وهناك من يعتقد أن اسم يثرب هو تحريف للكلمة المصرية (أتريبس)  . 
 
ولقد تعددت الأقوال في تحديد مدلول اسم يثرب، وهي إجمالاً تنحو في تفسيرها لمدلول الاسم وفق ما درج عليه منهج الإخباريين من ربط أسماء الأمكنة بأسماء الأشخاص والزعماء، أو ربطه بدلالة معنى الاسم الاشتقاقية.
 
والحقيقة أن المرء في ضوء ما هو متاح من مصادر ليس في وسعه تأكيد تلك الإشارات أو نفيها، بيد أن الأمر المؤكد أن اسم يثرب موغل في القدم، وأول إشارة إليه في المصادر التاريخية الموثوقة جاءت في نقش الملك البابلي نبونيد   الذي تحدث فيه عن حملته العسكرية على شمال غربي الجزيرة العربية، بوصفها إحدى الأمكنة التي احتلها، وقد جاء الاسم في متن النص البابلي بصيغة (ي - أَتْ - رِبُ "يثرب")، ما يعني أن يثرب كانت في منتصف القرن السادس قبل الميلاد تحمل الاسم نفسه، أما الإشارة الثانية إلى اسم يثرب فقد وردت في أحد النقوش المعينية بصيغة (ي ث ر ب)  ،  أي يثرب، وذلك في نحو القرن الرابع قبل الميلاد، كذلك تكرر اسم يثرب في المصادر الكلاسيكية، فقد جاء في جغرافية بطليموس وعند استيفانوس البيزنطي بصيغة (Iathripa)، وفي أحد نقوش أم جذايذ، ثمة نقش كتب بالخط النبطي   معناه:
 
1- سلام كأد بن أسلم
 
2- الذي من يثرب
 
فالإشارة في هذا النص تمدنا بدليل جديد من النقوش النبطية عن يثرب المكان والمدينة، ومن المرجح في ضوء رسم حروف النقش أن تاريخه يعود إلى القرن الثاني الميلادي، كما ورد اسم يثرب في التنـزيل العزيز في قوله تعالى: ﮢﮥﭙﰟﯝﱉ ﭕﮣﭔﭩﮣﭽ ﰬﯺﭔﭑﯽﰞﱐﮨﮠﰨ ﭲﮙﰠﮍﱈﮛﰶﭾﱇ ﯔﮤﰌﰀﭗﮢﮔﱈﭰﯰ ﯔﮤﮉﱉﯟﰟﭮﮪ ﮧﯰ ﭲﰴﭙﮣﭔﮀﮤ ﭩﮣﭣﰵﭟﱇ ﱊﮣﭔﭔﯢﱇﮏﰖﰹﰴﮡﭓﭘﭤ ﮢﮥﯕﮟﯲﱄﭷﮤﯼﱉﯜﰚﮒﰴ ﱊﮣﯞﰝﯔﭜﰨ ﭲﮙﰠﮍﱈﮛﰶﭾﰴ ﭓﭔﭩﮊﯹﭬﰚﰤﯳ ﯔﮤﭙﰱﮡﭩﰵﮡﮒﮤ ﭙﰟﮒﯹ ﭟﰸﯜﰴﮡﭯﮣﮊﮥﭔ ﰴﮤﮡﱇﯢﮥﮟﰨ ﮢﮥﭲﮤﭔ ﮔﰠﯢﮭ ﭟﰟﰹﮩﮡﱇﯢﮥﮟﭮﭘ ﭙﰟﮒ ﯔﰴﯞﰝﯔﯚﰰﮢﮒﮤ ﭙﰟﮧﯯ ﱊﰠﯞﮤﭓﯢﮉﭓ ﰙﰝﰛﰘ  .  وأخيرًا تكرر الاسم بصيغة يثرب في عدد من قصائد شعراء العصر الجاهلي من مثل قيس بن الخطيم، وأبي قيس بن الأسلت، ويستدل من رواية المصادر العربية أن اسم يثرب كان في البداية يطلق على مكان يقع في الوقت الحالي شمال المدينة المنورة، في المنطقة الواقعة بين جبل أحد  وجبل سلع  ،  وظل كذلك حتى غيّر الرسول صلى الله عليه وسلم الاسم من يثرب إلى المدينة المنورة 
 

استيطان يثرب

 
إن الحديث عن بداية الاستيطان في يثرب أمر ليس باليسير، خصوصًا أن الأبحاث العلمية لا تزال في بداياتها، بل هي مقارنة ببعض مناطق المملكة العربية السعودية الأخرى قليلة جدًا، ولكن على الرغم من ذلك واستنادًا على المقومات الطبيعية والبيئية، وما تبوأته يثرب من موقع مميز مقارنة مع بعض بلدان جزيرة العرب التي أكدت الأبحاث الآثارية قدم الاستيطان البشري فيها، وأشارت إلى جزء من حياة الإنسان فيها خلال عصور سابقة لعصر فجر التاريخ، فإن المرء بوسعه أن يفترض أن يثرب شهدت أيضًا استيطانًا مبكرًا يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، خصوصًا خلال العصر الحجري الحديث الذي تزايد فيه نشاط العنصر البشري في أرجاء متفرقة من منطقة المدينة المنورة  .  وما تلك المكتشفات الأثرية لعدد من المنشآت الصخرية، سواء كانت تلك المنشآت على هيئة دوائر أو مثلثات أو مذيلات حجرية في قمم جبل عير جنوب المدينة المنورة، وفي جبال البيضاء في الأجزاء الشمالية من المدينة المنورة، وتلك التي على ضفاف وادي العقيق ووادي الغرس  ،  وعلى الرغم من قلتها إلا إيماءات وشواهد مهمة تسجل جزءًا من نشاط إنسان يثرب خلال العصر الحجري الحديث وتؤكد على استيطانه فيها خلال تلك العصور الموغلة في القدم.
 
أما رواية المصادر العربية التي تناولت بداية الاستيطان في يثرب فهي، وإن كانت في مجمل أقوالها متضاربة، ويغلب عليها السرد الأسطوري، فإنها تمثل جزءًا مكملاً لرسم الصور التاريخية لبداية إعمار المدينة المنورة من قبل الإنسان، وحسب رواية الإخباريين العرب فإن أول من سكن يثرب شخص يسمى يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، ونسبة إليه سميت يثرب بهذا الاسم، وحسب ما تشير إليه الرواية التاريخية فإن قبيلة عبيل هي أول قبيلة تسكن المدينة  ،  ولكنها ما لبثت أن هوجمت من قبل العماليق الذين تمكنوا من إجلائها واستيطان يثرب 
 
ومهما يكن من أمر هذه الرواية التاريخية، فإن الحقيقة الثابتة أنه ليس ثمة دليل مادي يسندها أو ينفيها، وعلى الرغم من ذلك فإنها تشير إلى قدم الاستيطان في يثرب، وهذا أمر أكدته مكتشفات علم الآثار. فالنقوش البابلية، خصوصًا نقوش الملك البابلي نبونيد تؤكد على أن يثرب كانت في القرن السادس قبل الميلاد مدينة عامرة ومركزًا تجاريًا مهمًا يماثل في أهميته موقع دادان (العلا حاليًا) وتيماء، فرواية نقش حران البابلي تفيد أن الملك البابلي نبونيد أقدم خلال حملته على شمال غربي الجزيرة العربية في عام 553 ق.م على احتلال يثرب، وجعلها ضمن نطاق المدن الخاضعة لسيطرته في شمال غربي الجزيرة العربية، ولا ريب في أن عزم الملك البابلي نبونيد - آنذاك- على جعل يثرب تخضع لسيطرته إنما يرجع إلى الأهمية الاقتصادية والاجتماعية ليثرب من أجل توطيد أركان حكمه للمنطقة الذي دام عشر سنوات متتالية  .  ومما يعزز من أهمية يثرب، وقدم الاستيطان فيها خلال تلك الفترة هو ما تحدثت عنه رواية النقوش المعينية، فمن المعروف حسب رواية المصادر المعينية نفسها أن المعينيين قوم امتهنوا نقل التجارة البرية من جنوبي الجزيرة العربية إلى مناطق الاستهلاك في العالم القديم  ،  ومن أجل تسهيل مهامهم التجارية ارتبطوا بعلاقات اقتصادية واجتماعية مع عدد من الأمم والشعوب والبلدان داخل جزيرة العرب وخارجها، ومن بين تلك البلدان التي جاء ذكرها في النقوش المعينية يثرب  .  ففي أحد النقوش المعينية   يرد ما معناه:
 
1- م بن فَرْخ من عائلة شعثم
 
2- من قبيلة جَبْآن عقد قرانه
 
3- ودفع مهر خَبَّابة من يثرب
 
وفي نقش معيني آخر   مشابه في مضمونه للنقش السابق يرد ما معناه:
 
1- ى د بن ما سك من قبيلة
 
2- جبآن عقد قرانه ودفع مهر......
 
3- من يثرب
 
وتنبئ مضامين النقشين أعلاه اللذين يعود تاريخهما على الأرجح إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وكذلك رواية نقش نبونيد السالف الذكر إلى حقائق تاريخية مفيدة عن تتبع تاريخ الإنسان في يثرب خلال عصور ما قبل الإسلام، فهي تشير إلى:
 
 قدم الاستيطان البشري في يثرب.
 
 تفاعل سكان يثرب في تلك العصور الموغلة في القدم مع بيئتهم، وتوظيف مقدراتها بما يحقق استقرارهم في مناطقهم.
 
إن يثرب وسكانها لم يكونوا يعيشون حياة بدائية، بل تمكنوا بفضل جهدهم من جعل يثرب منطقة حيوية، أغرت جيش الملك البابلي أن يطمع في احتلالها، وجعلت قوافل المعينيين التجارية تتوقف فيها وتسوق ما حملته من بضائع من جنوب بلاد العرب في أسواقها.
 
إن يثرب كانت - آنذاك - محطة رئيسة على طريق التجارة القديم (طريق البخور) الذي يخترق جزيرة العرب من أقصى جنوبيها حتى يصل إلى مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط.
 
ارتباط يثرب بعلاقات اقتصادية واجتماعية مع شعوب وممالك الجزيرة العربية القديمة
 

سكان يثرب

 
إن مقاربة الروايات التاريخية للمصادر العربية مع شواهد مكتشفات الدراسات الآثارية الحديثة تؤكد على قدم الاستيطان في يثرب، وتدل على أن يثرب تبوأت مكانة اقتصادية واجتماعية بارزة خلال الألف الأول قبل الميلاد؛ ما جعلها مصدر جذب للعنصر البشري على مر العصور، وهذا ما تشير إليه معطيات المصادر العربية الخاصة بتاريخ يثرب، فهي تتضمن إشارة مفيدة عن سكان يثرب، خصوصًا خلال عصور ما بعد الميلاد وفترة قبيل الإسلام، فإشارتها تذهب إلى أن عددًا من القبائل اتخذت من يثرب موطنًا لها، ومن بينها قبائل: بني أنيف، وبني مريد حيان من بلي، وبني معاوية بن الحارث، وبني الحذمي، وبني الحرمان، وهما حيان من اليمن، وبني الشطبان من غسان  ،  وبني النضير، وبني قريظة، وبني هدل، وبني ضخم، وبني زعوراء، وبني زيد اللات، وبني القمعة، وبني ماسكة، وبني قينقاع، وبني عكوة، وبني مزاية، وبني حجر، وبني ثعلبة، وبني زهرة  ،  وقبائل الأوس والخزرج  
 
وقد اختلفت المصادر العربية، وكذلك الدراسة العلمية الحديثة في تحديد أصول هذه القبائل، ومتى، وكيف، ومن أين هاجرت إلى يثرب؟ فبعضهم يذهب إلى أن تلك القبائل كانت خليطًا من القبائل العربية والقبائل اليهودية، وبعضهم الآخر يرى أن جميع هذه القبائل هي قبائل ذات أصول عربية اعتنق بعضها الديانة اليهودية   وظل بعضهم الآخر على ديانته الوثنية.
 
شارك المقالة:
47 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook